التسامح بين الواقع والمأمول، د. سليمان القرم
فبراير 1, 2023
للمشاركة :

التسامح بين الواقع والمأمول، د. سليمان القرم / دكتوراة في الفقه الإسلامي

 كل مولود يولد على الفطرة، فإن سقيت بماء التوحيد؛ تجذرت في داخله عقيدة، وأزهرت جوارحه طاعة، وأثمرت أخلاقا هي غاية في رفعة الإنسان وسموه، والإسلام إذ حرم الظلم والاعتداء، أمر بالعدل، بل وضع المسلم في مرتبة أرفع من ذلك؛ حين أمره ببذل ما لا يجب تفضّلا، فحبب إليه التسامح وجعله سبيلا لمغفرة الله، {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]، وبفقدان هذا الخلق، يحل النقيض مكانه، لذا تجد الاعتداد بالنفس وحب الذات والانتصار لها من مفسدات التسامح بين أفراد المجتمع، فذاع الخلاف وانتشر، وطغت العدوانية وعمت، حتى غدت سلوكا لكثير من أفراد المجتمع المسلم؛ فكم من أزواج طلقت وأرحام قطعت وجموع فرقت وأموال أتلفت وأنفس أزهقت، بسبب كلمة لا يعفو عنها، أو موقف بسيط لا يتغاضى عنه، أو حق لا يأبه له صاحبه لو تنازل عنه، وحتى تلك الحقوق التي تتعلق بالأموال والدماء فإن النفس المؤمنة القوية لا تعدم الوسيلة للعفو والتسامح، فمن قال إن الشر بالشر يطفأ؟ {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}  [الحجر:85].

إن التسامح خلق النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه فتح مكة حين قال لأهلها كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فقد جمع الصفح عن صور متعددة من الاعتداء والظلم. وتعرف سماحة النفس بطلاقة الوجه ومبادرة النّاس بالتّحيّة والمصافحة وحسن المحادثة، والتّغاضي عن الهفوات التي تقع أثناء العمل أو قيادة المركبة أو في المجالس أو في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي التعامل مع الآخرين، فعن أنس قال: خدمت النبي في السفر والحضر، والله ما قال لي لشيء صنعتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعه: لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا؟ [صحيح البخاري] وفي البيع والشراء، بألا يكثر البائع من المساومة، بعيدا عن الطمع والاستغلال. وعلى المشتري أيضاً أن يتساهل وألا يدقق في الفروق البسيطة، وأن يكون كريماً مع البائع وخاصة إذا كان فقيراً. وفي الاقتضاء، بأن يراعي حال المدين، وألا يسبب له الضنك في العيش، فإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة والتصدق خير، فمن يتجاوز عن الناس تجاوز الله عنه.

ولِمَ لا تسامح؟ فالتسامح طريق إلى الله كما الصلاة والصيام وسائر الطاعات، {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134] ويحفظ المودة في المجتمع، {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، وفيه النجاة من النار؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: “حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس” [حديث حسن رواه أحمد وغيره]

فكنْ رجلاً على الأهوالِ جلداً                         وشيمتكَ السماحة والوفاءُ

تصنيفات :