الصورة الأبشع
د. فادي عصيدة
لقد حفل القرآن الكريم بكثير من الصور البلاغية، التي ما زالت تُعد فيها الدراسات والأبحاث، لتكشف عن جوانب بلاغتها، ودقة تعبيرها، وتناسق ألفاظها، ومنها مثلا ما جاء في افتتاح آيات الربا الخمس التي جاءت في سورة البقرة، ونحن سنقف عند صورة واحدة جاءت في الآية الأولى منها، لنرى تلك الوظيفة العظيمة التي أدتها، في رسم معالم صورة المرابين، فكانت في قولة تعالى: : } الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275].
إن النظر في قوله تعالى: “كالذي يتخبطه الشيطان من المس” تطلعنا على خطورة هذا الجرم الذي يرتكبه الإنسان بحق نفسه فلا يوجد في كتاب الله صورة أبشع تنفيراً من الصورة التي رسمتها الآيات للمرابين، وذلك نظرا لاستعمال الألفاظ الموحية، التي تحمل من الظلال والتيه، ما تحمل، وهذا الذي جعل سيد قطب –رحمه الله- في ظلاله يقول عنها: “وما كان تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة… صورة الممسوس والمصروع… وهي صورة معروفة معهودة للناس، فالنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفراغ الحس لاستجاشة مشاعر المرابين، وهزها هزة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم … وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة في مواضعها”.
إن استعمال الفعل “يتخبطه الشيطان” رسم أمامنا صورة حسية، تحرك المشاعر، وتوحي بمدى التيه والضلال الذي يعيشه هؤلاء المرابون؛ فهي من التخبط بمعنى الضرب على غير استواء واتساق، يقال: خبطته أخبطه خبطاً أي ضربته ضرباً متوالياً على أنحاء مختلفة، ويقال تخبط البعير الأرض إذا ضربها بقوائمه، ويقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه خبط عشواء، وهذا ما قاله زهير بن أبي سلمى في معلقته:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
وهنا تشابه المرابين الذين مسهم الشيطان مع هذه الناقة، فهم يسيرون على غير هدى كتلك الناقة العمياء التي لا تهتدي طريقاً، فالشيطان قد أصابهم بالجنون.
وقد اختلف المفسرون في متى يكون هذا التخبط هل هو في الدنيا أم في الأخرة؟ وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن هذه الصورة المنفرة المفزعة لهؤلاء النفر تكون يوم القيامة؛ إذ يأمر الله تعالى الناس بالخروج من قبورهم، فيخرج الناس إلى ربهم سراعا، ما عدا هؤلاء المرابين الذين لا يستطيعون أن يقوموا كبقية الناس، لأنهم يقومون ثم يسقطون مصروعين، لأنه أصابهم مس من الشيطان، وهكذا يتكرر المشهد يوم القيامة حتى يأمر الله تعالى بهذا النفر إلى جهنم وبئس المصير، وكذلك حال المرابين، الواحد منهم كل همه أن يجمع المال بالحرام، فهو يستحق هذا الجزاء الرباني العادل، لأنه يأكل أموال الناس بالباطل والإثم، مستغلاً حاجتهم إلى المال، وكذلك هي المجتمعات الربوية الآن تعيش حالة الاضطراب والخوف والأمراض العصبية، وأصابها الصرع الربوي.
إن صياغة الفعل (يتخبّط) بالتضعيف على وزن (يتفعّل)، توحي بالحركة المضاعفة، ويطيل مدى التخبط لأن تكرار الصوت يستغرق زمنا أطول، وهذا ما تريده الآية، فالناس تقوم مسرعة أما هم فزمن قيامهم طويل، لتكرار سقوطهم، كما أن مخارج حروف هذا الفعل جاءت مضطربة بدءا من أقصى الحلق من الخلف حتى الشفتين، والعودة إلى اللثة والأسنان، والأمر نفسه في تضارب صفات هذه الأصوات من تفخيم وترقيق وانفجار واحتكاك، كلها توحي أن هذا التضارب والتخبط هو صفة هؤلاء المرابين، سواء في قيامهم يوم القيامة أو في حياتهم وجشعهم في الدنيا، فالطمع والرغبة تستفزهم حتى تضطرب أعضاؤهم ، كما تقول لمسرع في مشيه يخلط في هيئة تحركاته إما من فزع أو غيره: قد جنّ هذا.
تصنيفات : قضايا و مقالات