باب العامود.. معلم تاريخي وأيقونة مقاومة ترعب المحتلين
الأستاذ: عبد السلام عواد
باحث مختص في شؤون القدس والاستيطان
يحمل كل حجر في روائع العِمارة الإسلامية بالقدس العتيقة حكايا وأحداثا من تاريخ أجدادنا ومن عمر الزمان الماضي؛ ولكأن التاريخ يطوف نهاراً في أرجاء العالم ثم يستقر ليلاً في القدس الشريف.
القدس زهرة المدائن، وأطهر الأماكن، فهي مدينة التاريخ، والأديان، ومن أهمّ ما يميزها سورها التاريخي الذي يحيط بها، الذي شيده أجدادنا الكنعانيون، ثم تعرض إلى الخراب عدة مرات على يد الجيوش الغازية لكنه ما زال قائماً حتى الآن، فكان الهدف من بنائه حماية المدينة من الأعداء، وصدَّ أيّ هجومٍ تتعرض له، وهو يضمّ سبعة أبواب مفتوحة، وأربعة أبواب مغلقة. لكننا سنتناول في هذا المقال بابا من أهم أبوابها وأكثرها جمالا وهو باب العمود.
لباب العمود أهمية تاريخية وسياسية وثقافية ورمزية كبيرة للعرب والمسلين عامة ولسكان مدينة القدس وخارجها بشكل خاص، وهو الباب الرئيس لدخول مدينة القدس وهو الباب الأكثر فخامة من بين أبواب المدينة وأجملها وأكثرها ثراء من ناحية معمارية وزخرفية، وهو أبرز نماذج عمارة القرن السادس عشر ليس فقط في القدس بل في عموم مدن فلسطين.
التاريخ والبناء
تشير السجلات التاريخية إلى أن الباب بناه في الأصل الملك هيرودس أغريباس الأول عام 41 ميلاديًا ثم أعاد بناءه الإمبراطور الروماني هادريان في أثناء حكمه، وقد بنى الرومان الباب في البداية ليصل المكان بالطريق الشمالي الجنوبي الذي يمر عبر القدس، وكان الهيكل الأصلي عبارة عن باب نصر بثلاثة أقواس قائم بذاته، لكن اليوم لم يبق إلا القوس الشرقي الأصغر.
ويعود تاريخ البناء الحالي للفترة العثمانية بين عامي 1537 و1539م، ويعلو الباب فتحة صغيرة للحراسة وتاج دُمر في الزلزال الذي ضرب القدس عام 1927 وأعادت سلطات الاحتلال الإسرائيلية وضعه لاحقا.
ويتميز باب العمود بالانحناء وفقاً لنمط العمارة العثمانية للمحافظة على المدينة والدفاع عنها، وهذا ما كان يحقق الأمن لحراس المدينة وصعوبة اختراقه.
اكتسب باب العمود أهمية كبيرة منذ العهد العثماني باعتباره ممرا رئيسا للقوافل التجارية والأفواج السياحية التي كانت تؤم القدس، نظرا لاتساع مساحته وقربه من الأسواق وطريقه الممهدة التي تؤدي لداخل أسوار القدس، ويتفرع منها الطريقان الرئيسان للأسواق وللحيّين الإسلامي والمسيحي، وهما طريق باب خان الزيت وطريق الواد.
تبلغ مساحة ساحة باب العامود ومدرجاته والدكاكين المملوكية الموجودة في مدخله حوالي ثمانية دونمات ونصف، وظل على مدار قرون طويلة الممر الرئيس لجميع القوافل التجارية والأفواج السياحية التي كانت – ولا زالت – تأتي لزيارة مدينة القدس.
سبب التسمية
تاريخيا أطلق على باب العامود تسميات أخرى منها باب دمشق وباب نابلس، وقد سمي الباب باسمه الحالي نظرا لوجود عمود من الرخام الأسود ارتفاعه 14 مترا، وضع في الساحة الداخلية للباب في عهد الإمبراطور هدريان في الفترة الرومانية، وعن طريقه كان يقاس بعد مسافات المدن عن مدينة القدس.
كما أطلق عليه (باب النصر) عندما دخل منه أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه حينما فتح المدينة سنة 15 هـ وسُمي باب دمشق نسبة إلى وجهة المسافرين من خلاله باتجاه دمشق، كما سُمي باب نابلس لأنه يتجه نحو مدينة نابلس.
باب العمود والاحتلال
عانى باب العامود من اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي الذي استهدف إجراء تغييرات ديمغرافية تعسفية بالمنطقة، ومع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 بدأت محاولات الاحتلال تقليص عدد المارة من باب العامود لتصل ذروتها مع انطلاق الهبة الشعبية مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2015 إذ بدأ باب العامود ومحيطه يتحولان تدريجيا لمنطقة عسكرية وأحد أهم نقاط المواجهة الأكثر سخونة مع الاحتلال في مدينة القدس.
ومنذ الأعوام الثلاثة الماضية حولت شرطة الاحتلال الباب وساحته إلى ثكنة عسكرية، وأقامت ثلاث نقاط تفتيش في الطريق المؤدية إليه. كما اقتلعت الأشجار من محيطه، ونصبت عشرات كاميرات المراقبة.
وقد شكلت ساحة باب العامود متنفسا لسكان مدينة القدس، فكانوا يلجؤون إلى مدرجاته للترويح عن أنفسهم، وتناول المشروبات في مقاهيه. ويرتاده المواطنون من شتى مدن فلسطين والرسامون والسياح ليلتقطوا صورا تذكارية؛ نظرا لجمال المكان وأهميته.
ونظراً لاعتبار باب العامود شريان الحركة إلى البلدة القديمة، فقد أثرت الإجراءات الإسرائيلية سلباً على الحركة التجارية مما أدى إلى إغلاق أكثر من 270 محلاً تجارياً. ويهدف الاحتلال من إجراءاته على الباب إلى السيطرة الكاملة على البلدة القديمة باعتباره المدخل الرئيس لها.
وقد أصبح باب العامود رمزا للسياسات الإسرائيلية التعسفية والانتقامية بالمدينة، بدءا من القمع والاغتيال، مرورا بمحاولات الأسرلة، والتضييق على ساكنيه.
وخلال العامين الماضيين بات الفلسطينيون يطلقون على ساحة باب العمود لقب “ساحة الشهداء” نظرا لارتقاء العديد من الشهداء في المنطقة برصاص شرطة الاحتلال بحجة تنفيذ أو محاولة تنفيذ عمليات طعن.
وأخيرا سيظل باب العمود شامخا باقيا كما أعمدته لا تهمه عاديات الزمان وظلم المحتلين وسيظل طريقا للفاتحين كما كان وممرا للزائرين والمريدين لمدينة القدس ومعالمها.
تصنيفات : قضايا و مقالات