الابتلاء سنة الله لمحبيه، د. سمير محمد عواودة
مارس 3, 2023
للمشاركة :

د. سمير محمد عواودة

دكتوراه في الفقه وأصوله

الابتلاء سنة الله لمحبيه

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيّد المرسلين، وأشهد ان لا إله إلا الله، وان محمدًا عبده ورسوله، ثم أما بعد:

تقرر في جملة من النصوص الشرعية مجموعة من السنن الربانية المطّردة في الكون، ولعل من أبرز هذه السنن سنة الابتلاء، فالله تعالى لم يجعل في هذا الكون شيئًا إلا لحكمة، وقد أشارت النصوص الشرعية لسنة الابتلاء قول الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشر وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] ليرى الله من عباده مدى صلابتهم في دينهم، وقياس مدى رضاهم عن ربهم، ليستحقوا الثواب أو العقاب، فالمرء يتذوق في الحياة ما فيها من النكد واللأواء، والصحة والسرور، فالعاقل يوظف هذه الأحوال ليرضي ربه، ومن ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الذِي خَلَقَ السمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتةِ أَيامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[هود:7].

وقد أكد الله تبارك في كتابه أن ابتلاءَ الناس لا بدّ عنه، وذلك حتى يستعدوا للنوازل؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾[البقرة:155]،  وجعل الله تعالى الابتلاء سنة دائمة في حياة البشرية، فقال الله تعالى:”أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ”[العنكبوت:2] وعقّب سيد قطب على ذلك بقوله “هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت، وسنة جارية في ميزان الله سبحانه” ويتجلّى في الابتلاء عدة أمور، منها:

1. يُعد الابتلاء هو الغاية الرئيسة من خلق الناس؛ لمعرفة أيهم يتّبع الهدى والرشاد، وأيهما يُعرض عن ذلك، كقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ ‌أَحْسَنُ ‌عَمَلًا﴾ [الكهف:7].

2. يرتبط الابتلاء بالتكاليف الشرعية، وخاصة التكاليف الشاقة منها؛ كالجهاد في سبيل الله،  فجعل الله أجر المجاهدين عظيمًا، لقوله تعالى: ﴿‌وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾[محمد:31].

3. الابتلاء وسيلة لتمايز الناس عند وقوع السرّاء أو الضرّاء لمعرفة الشكور من الكفور، كما قال الله على لسان سليمان عليه السلام: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ‌لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾[النمل:40].

4. الناظر في سير الصالحين يجد أن الصحابة أيقنوا أنّ عِظَم الجزاء لا يكون إلا تحت مطارق الشدائد، وسياط الظلمة، كقوله صلى الله عليه وسلم لخبَّاب بن الأرَتِّ حين طلب الدعاء بالثبات، فقال:” قد كان من قبلكم يؤخَذُ الرجلُ فيُحفَر له حفرة في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضَعُ على رأسه فيجعل نصفين، ويُمشط بأمشاطِ الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصدُّه ذلك عن دينه”[صحيح البخاري].

5. ابتلاء الله لمحبيه من سُبل الوصول لأعلى المراتب، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “يبتلى العبد على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً، اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتُلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه من خطيئة”[حديث صحيح رواه أحمد والترمذي وابن ماجه].

6. يواجه المؤمن الابتلاء بصبر واحتساب، فالمؤمن المبتلى تؤدِّبه المحنة، والمصائب تهذّبه، فتزيده إيماناً وثباتاً، وعزيمة وإقدامًا نحو الحق، فالذهب تزيده النار صفاءً ولمعانًا، لقوله صلى الله عليه وسلم: “إنّ الله ليجرّب أحدَكم بالبلاء، وهو أعلم به، كما يجرّب أحدُكم ذهبَه بالنار” [المستدرك، وصححه الذهبي].

7. قد يُبتلي الله المؤمن دون ذنب اقترفه، بل ليرتقي به، وليرفع من درجاته، فالابتلاء له دلالة على محبة الله تعالى لعبده المؤمن، لقوله صلى الله عليه وسلم: “وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السُّخْط” [حديث حسن رواه ابن ماجه].

8. تتجلّى في ابتلاء الله لمحبيه جملة من القيم والمراتب، كالتمحيص لقوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾[آل عمران:179]، ورفع الدرجات لقول الرسول صلى الله عليه: “من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه”[صحيح البخاري]، وتكفير الذنوب لقوله صلى الله عليه وسلم: “ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه، حتى الشوكة يُشاكها” [متفق عليه].

9. ابتلاءات للمؤمنين يعتريها الخير، فالأنبياء كموسى عليه السلام تعرّض للبلاء بملاحقة فرعون له، ويونس التقمه الحوت، وأيوب ابتلاه الله بالمرض، وتعرّض محمد صلى الله عليه وسلم لاتهام بيته بالفاحشة، وتتجلى في الابتلاء محبة الله للمبتلين في أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم أو أوطانهم، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع”[رواه أحمد].

10. ينبغي تصحيح مفهوم خاطئ يتعلق بابتلاءِ الله لعباده من غنًى أو فقر؛ فليس الغنى معيارًا لمحبة الله، وليس الفقر دليلًا على إهانة الله للفقراء.

ختامًا: من مظاهر ابتلاء المؤمنين ظاهرة الزلازل، يسخّرها عقابًا للمذنبين، وابتلاءً للصالحين، وعبرة للناجين، فالحكم على الزلازل وغيرها من الابتلاءات بأنها عقوبة، يتعارض مع ثابت مهم من ثوابت الإسلام، وهو حكم الإسلام بالشهادة لضحايا الزلازل، وعقاب الله للناس بالزلازل والبراكين والهلاك، إنما كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

وفقنا الله وإياكم وثبتنا على الحق القويم

تصنيفات :