كيف نعيد للمسجد دوره
أسامة محمد سعيد ملحس
رئيس التحرير/إذاعة القرآن الكريم بنابلس
حينَ هاجَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ المنوَّرة، وشرَع في وضع الأُسس الراسخة لإقامة الدولة الإسلامية العظيمة، كان بناءُ المسجد (أحب البقاع إلى الله) في مقدِّمة تلك الأُسس، وبه أصبح المسجدُ مِحورَ حياة الدولة الإسلامية العظيمة، وسرَّ قوتها؛ لأنه ملتقى الأرض بالسماء، لأنه بيت الله؛ فيه يشعر المسلم بحقيقته الإيمانية، ويكون في أحسن أحواله النفسية، لقدرة المسجد على البناء السليم المتكامل روحيا وأخلاقيا؛ فهو المَحْضنُ الأول لبناء رُوّاده على منهاج الحق بأيدٍ صادقة، ليكونوا صالحين مصلحين .. وقد ثبَتَ أن الرجال الذين تَمَّت صناعتُهم في المسجد، كانوا دائمًا على مستوى المسؤولية؛ صدقًا في الكلام والفعل، ونظافةً في اليد، وطهارةً في القلب، ونقاءً في السريرة، ووفاءً بالعهد، وشجاعة في الحق؛ ولهذا منَحَهم الله نَصْرَه وتأييده؛ لأنهم جنودُه.. والمسجد هو المكان الذي يَدَعُ فيه المسلمون فسادَهم وشرورهم عند الباب، ويدخلون إليه بقلب منفتحٍ للإيمان، متطلعٍ إلى السماء، وهو البرلمان الذي يتشاورون فيه بما يعرض لهم.
لم يكن المسجد دارا للعبادة فحسب، بل مدرسةً إلهية للتربية الأخلاقية والعلمية، ففيه تخرّج العلماء والمفكرون المسلمون على مدى عصورِ ازدهاره، فامتلأت الدنيا بأنوار علومهم وعظيم أخلاقهم.
ولكن للأسف الشديد إن المتابع لأحوال المسلمين سيدرك فعلا أن دور المسجد قد تراجع في ظل تخلينا عن أخلاقيات ديننا وتحويلنا المسجد إلى مكان لا نقصده إلا في الصلوات، بما لا يزيد عن دقائق معدودات، مما يشكل خطورة كبيرة على هُويّتِنا الثقافية، وهو ما أدّى بالتالي إلى تزايد حدّة الاضطرابات النفسية في مجتمعنا، رغم أن الإسلام يحتوي على قِيمٍ وتشريعاتٍ قادرة – في حال التزم المسلمون بها- على أن تواجه كلَّ الأمراض النفسية، والتخلص منها تماماً.
والسؤال هنا يفرض نفسه أمام مسؤولياتنا جميعا:
كيف يستعيد المسجد دورَه الأخلاقيَّ والدينيَّ والعلميّ في ظل تحدّيات العولمة الشرسة وتعدّد وسائل الترفيه، وسيادة فضائيات الفجور والإباحية والشذوذ؟ وكيف نجذب الشبابَ من جديد إلى ساحة العلم والتربية في المسجد، ليعود مدرسةً إلهية تُعنى بكل شؤوننا الحياتية والنفسية والأخلاقية والعلمية والوطنية؟
ليعودَ للمسجدِ دورُه الرِّياديُّ في نهضة الأمَّة وتقدُّمها، واستعادة مَجْدها؛ فإنه ينبغي أن يُمكَّنَ للمسجدِ كي يُؤديَ رسالته الرُّوحية، والتعليمية، والاجتماعية؛ أن تُرفع عنه (القيود)؛ لكي يعودَ كما كان مِحورًا للعديد من المجالات النافعة للأمة؛ وفكُّ (القيود) عنه من مسؤولية المسؤولين أمام الله لتفعيله كمركزِ عبادةٍ للحفاظِ على فطرةِ الإنسان، وربْطِ النَّشْءِ برِّبه، منذ الإدراك والتَّمييز، ويعودَ منطلَقًا للعديد من الأنشطة في الحياة الإسلامية، إلى جانب العبادة والعلم، وإظهار الصورة الحقيقية المشرقة للمسجد.
لكي يعودَ للمسجدِ دورُه يلزم أيضا توفير جميع وسائل النهوض بدوره، وذلك بالدمج بين المُعاصَرة والأصالة، لاستكمال رسالته الِّدينية والتَّربوية والاجتماعية لبناء الفرد والمجتمع، بتحقيق دوره في معالجة قضايا الأمة الإسلامية وكيفية عودتها إلى تحكيم كتاب الله في التَّشريعات والقضايا المصيرية، وذلك من خلال المسؤولية المحورية التي تقع على عاتق الأئمّة والخطباء في تفعيل دورهم المهم ببناء النفوس والعقول بالخطب والدروس … وكذلك بإشرافهم على تفعيل مكتبة المسجد (الموجودة شكلا)، بالترويج لكتبٍ فيها، وتوجيهِ المصلين إلى الاستعارة منها، أو بتنظيمِ جلساتِ إسماعٍ لفحوى كتابٍ مختار، يقرأه عليهم، أو يحفّز شبابَ المسجد للتنافس على القراءة لغيرهم من الرواد.
ليعود للمسجد دورُه يجب أن يأخذِ الإِعلامُ دورَه؛ نستثمرُ الإعلامَ الصادق النزيه لتغيير المفاهيم السائدة تُجاه المسجد، وما أظن أن منبر هذه المجلة الدعوية الإلكترونية إلا نموذج للدور الإعلامي الذي أقصده، ولا تكفي فيه المقالة لتغيير الحالة، فمن واجب الإعلام أن يضغط باتجاه توجيه المسؤولين للوقوف عند مسؤولياتهم أمام الله تعالى وعبادِه، وأن يَعمل بخطٍّ موازٍ على التوضيح والإرشاد والتوعية، ولو من خلال الترويج لأنشطةٍ وفعالياتٍ مُشوّقةٍ جاذبةٍ يقوم بها المسجد. فما المانع الشرعي في تفعيل الأنشطة الثقافية والرياضية والاجتماعية، ودوراتٍ في محو الأمية، أو تقويةٍ في الدروس الأكاديمية، إلى جانب دوراتِ تحفيظ القران وتجويده؟ ومن الممكن أيضا أن نكلف شباب المسجد بأعمال الخير وخدمة المجتمع والبيئة، وأن نعلمهم كيف يخالطون الناس ويصبرون على أذاهم. ما المانعُ الشرعيُّ في تعليم الناس – وليس المصلين فقط- لغةَ العصر وهو الكمبيوتر، وكيفية التعامل مع شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، ولعل في دمج شبابنا بهذا المجال – من رحاب المسجد وهيبته- ما يُبعدُهم عن مفسدات هذه التقنية وشرورها الأخلاقية.
وقبل الختام ، فإننا إذا كنا نريد فعلا تفعيل دور المسجد حتى نستعيدَ أمجادَه وتأثيرَه في إثراء حضارة المسلمين، والسموِّ بأخلاقهم، وتحفيز هِممهم، فيجب أن نعرف أهم الأسباب التي أدت إلى تراجع دور المسجد.. ندرسها بجدية، ونعالجها بجدّية.
تصنيفات : قضايا و مقالات