في حضرة الذات الإلهية العظيمة، وفي موقف لا تستطيع وصفَه الكلماتُ، وبكلام مباشر من الله تعالى دون واسطة، وبصوت مسموع ومفهوم، تلقى نبي الله موسى عليه السلام أمرًا إلهيا بالتوجه إلى فرعون لمخاطبته بالإيمان والإذعان. لكن المفاجأة الكبرى أن موسى عليه السلام لم يُسارع إلى التنفيذ، رغم مكانته في النبوة والإيمان والقرب من الله تعالى، ورغم جلال الموقف، وعِظَمِ المُخاطِبِ، ومباشرة الخطاب، ووضوح الأمر، وصراحة التكليف. بل أبدى لربه تخوّفه من بعض العواقب، والتمس منه سبحانه عدة طلبات وتطمينات. فهو يعلن بصراحة تخوّفه من بطش فرعون وتكذيب قومه، ومن أخذه بالقتل الخطأ الذي لطم به المصريّ، ويخاف أن لا ينطلق لسانه. ويطلب من الله تعالى مباشرة أن يشرح له صدره، وأن يُيسر أمره، ويحلل عقدة من لسانه، وأن يبعث معه آخر يعينه، بل لقد حدّد في الطلب أن يكون هذا الشخص الآخر هو أخاه هارون. والله سبحانه يستجيب ويعطي موسى التطمينات، ويُلبي له كل الطلبات. وفي هذا كله عدة دلالات مهمة:
1- أهمية الحسابات المادية البحتة والدقيقة، لكل معطيات الواقع ومخاطره واحتمالاته، والتخطيط لمواجهة كل التحديات بدقة وعناية، وعدم الإقدام على أي أمرٍ دون تصوّرٍ كافٍ لكل تفصيلاته، ودون إعداد تامٍّ لكل احتمالاته ومخاطره ومآلاته
2- وجود أمر ديني بفعلٍ، لا يعني بحالٍ إهمالَ التأنّي والتخطيط والإعداد قبل التنفيذ. فالأمر الدينيُّ بالفعل أو الإقدام، مشروطٌ دائمًا وضمنًا إن لم يكن صراحة، بسلامة العواقب، وإمكانية التنفيذ، والتيقّن من تحقيق الأهداف. ومشروط دائمًا وضمنًا بسبق التخطيط والإعداد. ومتضمّن دائمًا إذنًا ضمنيًا بتأخير التنفيذ إن اقتضت المعطيات الواقعية، تحيُّنًا للّحظة المناسبة. وهل هناك أعظم وأوضح من أمر إلهي بكلام مباشر لنبي مقرّب من أعظم الأنبياء، ومع ذلك لم يُسارع بالتنفيذ قبل أن تطمئن نفسه من كل التخوفات، وتتحقق له كل مطالب الإعداد؟!
3- كمال التوكل على الله تعالى لا ينافي كمال الإعداد والتخطيط، وأخذ كل التفصيلات بعين الاعتبار، والتحوّط لكل المخاطر. فموسى عليه السلام لم يقل في نفسه: ما دام رب العالمين بعظمته وإحاطته وقدرته، هو الذي يتكلم معي الآن، وهو الذي أمرني، فبالتأكيد هو الذي سيُسلّم ويُيسّر ويوصل للنتائج، ولا داعي لأي تخوّفٍ أو حساب أو طلبات. والتوكّل الحقيقي هو الذي يأتي بعد استنفاد الطاقة كلها في العمل والإعداد والتخطيط ودقة التنفيذ. وحين تُستنفد الطاقة كل الطاقة في كل شيء ممكن، ولا يبقى شيءٌ يُعملُ، تحين لحظة التسليم التام لله تعالى، والثقة المطلقة في قدرته ولطفه، كما فعل موسى عليه السلام نفسه، حين حُصِرَ وقومُه بين جنود فرعون والبحر، وتزعزع قومه، وظنوا أنه قد انتهى أمرهم، فثبت هو، وطمأنهم بإيمان راسخٍ وتوكّلٍ فريدٍ: “كلا، إن معي ربي سيهدين”.
4- ومما يلفت النظر هذا الحِلمُ الإلهي العظيم والعجيب على توقّف موسى قبل التنفيذ، وهذه المساحة الكبيرة التي منحها الله تعالى لموسى، في الكلام، والحوار، والتعبير بإبداء تخوّفات، واستحثاث تطمينات، وسؤال طلبات. ولم يتبرّم سبحانه بما أبداه موسى، ولا استنكر توقفه أمام هذا الأمر الإلهي المباشر الصريح في ذلك الموقف العظيم، ولم يعنّفه، ولا نعى عليه عدم الثقة بالله تعالى، القادر على كل شيء، والذي لا تُقارنُ قدرته وبطشه بقدرة فرعون وبطشه، والمحيط بكل شيء، والمقدّر بدقة لكل شيءٍ، الذي لا يخفى عليه بطش فرعون، وعقدة لسان موسى، وخطر الانتقام منه لقتله المصري، والذي لا يخفى عليه أن إرسال هارون مع موسى أفضل. ولكنه موقفٌ يريد الله تعالى أن يُعلمَنا منه أن نكون ربانيين مثله سبحانه مع من هم تحتنا. وأن يتعلم كل عظيم ومسؤول، أن يكون منفتحًا مع أتباعه بالشورى، وإتاحة الحرية لإبداء الرأي، وفتح مجال الحوار، والسماح بالتعبير عما يجول في النفس دون خوفٍ، واستطلاع وجهات النظر، وتقليب كل الاحتمالات بشكل جماعي، وأخذ ما يبديه التابعون بالحسبان، وعدم الأنفة من التعديل في الأمر الصادر بناء على ما تسفر عنه الشورى الجماعية، والتشجيع للتابع بوجاهة رأيه، والتطمين له من تخوفاته، وأخذ طلباته بعين الاعتبار، فذلك أدعى للنجاح والتوفيق والسلامة وتحقيق النتائج، من التسلّط والتجبّر والاستبداد بالرأي والقهر.
5- ومما يلفت النظر هذه الشخصية الفريدة لموسى عليه السلام، القوية المستقلة الحاضرة الجريئة، حتى تجرّأ بالتوقّف قبل تنفيذ الأمر في ذلك الموقف العظيم، وتجاسر على قول كل ما قال في حضرة الذات الإلهية العظيمة، وعلى محاورة رب العالمين في أدقّ التفصيلات وأصغر المعطيات ومناقشة كل الاحتمالات. وهي شخصية تدل أيضًا على قائد عظيم، لا يُقدمُ قبل أن يحسب ويُخطط ويُعدّ، مُلمٍّ بأدق تفصيلات الواقع، وأخفى خبايا نفوس الناس، ومآلات الأفعال. وهي شخصية ظهرت بكل معالمها في ليلة معراج نبينا صلى الله عليه وسلم، حين فُرضت الصلاة خمسين، فطلب موسى عليه السلام من نبيّنا صلى الله عليه وسلم أن يُراجع ربَّه، ليُخفّف، لأن تجربة موسى الواقعية تُثبتُ أن الناس لا تُطيق. وفعلًا أخذ نبينا صلى الله عليه وسلم بالنصيحة، وراجع ربّه سبحانه، مراجعة تلو مراجعة، بمتابعة حثيثة من موسى عليه السلام في كل مرة، حتى خُفّفت الصلوات إلى خمس صلوات في اليوم والليلة.
تصنيفات : قضايا و مقالات