
وَرَدَت هاتان الصِّيغَتان (مَفْعل وَفُعَال) فِي القُرآنِ الكَريمِ فِي ثَلاثَةِ مَواضِع، وَحمَلتْا أَبْعَادَاً دِلَالِيَّةً عَمِيقَة، ومِن ذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾[1].
إنَّ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ مَعْدُولَةٌ عَنْ أَعْدَادٍ مُكَرَّرَة، ” وَهْن نَكِرات وَمَحَلَّهُنَّ النَّصبُ عَلَى الحَالِ مِمَّا طَابَ، تَقْدِيرهُ فانكِحُوا الطَيِّبَاتِ لَكُم مَعْدودَات هَذَا العَدَد، اثنتين اثنتين، وَثَلَاثاً ثَلاثاً، وَأَرْبعاً أَرْبَعاً فَإِنْ قُلْت: الَّذِي أطْلَق لِلنَاكِحِ فِي الجَمْعِ أَنْ يَجْمَعَ بَينَ اثْنَتَين أَوْ ثَلاث أَوْ أَرْبَع، فَما مَعْنَى التَّكْرير فِي مَثْنَى وَثُلاث وَرُبَاع؟ قُلْت: الخِطَابُ لِلجَمِيعِ، فَوَجَبَ التَّكرير لِيصيبَ كُلُّ نَاكِحٍ يُريِدُ الجَمْعَ مَا أَرَادَ مِنِ العَدَدِ الَّذِي أُطْلِقَ لَهُ، كَمَا تَقُولُ لِلجَمَاعَةِ: اقتَسِموا هَذَا المَالَ وَهْوَ أَلفُ دِرهَم، دِرْهَمَين دِرْهَمَين، وَثَلاثَة ثَلاثَة، وَأَرْبَعَة أَرْبَعَة، وَلَو أَفْرَدْتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنى “
كَمَا نلحظ أَنَّ (مَثْنَى) تَحْمِلُ مَعْنيين وَدَلالتِين، المَعْنَى الأَوَلُ هُوَ الجمع، والثّانِي: تَكْريرُ الشَيءِ مَرَتَيْنِ، وَذَكَرَ ابْنُ فَارِس: ” ثَنَيَ الثَّاء وَالنَّون وَاليَاء أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهْوَ تَكْريرُ الشَّيءِ مَرتَين، أَوْ جَعْلَهُ شَيْئَين مُتَوَالِيين”، وَهَذَا التَّكْريرُ قَدْ يَحْملُ مَعْنى تِكْرَار الزَواج بَعْدَ الفُرَاقِ، أَيْ إِعَادَة الزَّوَاج فِي حَالةِ الفِرَاق، فَإِذَا فَارَقَ الرَّجُلُ يَسْتطيعُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَرةً أُخْرَى، ومْنهُ (المَثْنَاة) وَهْوَ مَا قُرِئَ مِنِ الكِتابِ وَكُرّر، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ سُورة الحجر، آية ” 87″.
فَلَّمَا قَالَ (ثُلاث وَ رُبَاعَ) أَزَالَ اللَّبْسَ عَنْ المَعْنَى، وألغِيَتْ الفِكْرَةُ الأُولى وَهْي مَسْأَلة تكْرَار الزَّواجِ بَعْدَ الفِراق، إِلى فِكْرَةِ التَّعَدد، فَصيغَة(فُعَال) فِي قَوْلهِ تَعالى (ثُلَاث وَرُبَاع) حَسَمَتْ مَسأَلَةَ التَعَدّد، وَأَزَالَت اللَّبسَ عَنِ المَعْنَى الأَوَل.
كَمَا أَنَّ حَرْف المَد الأَلِف فِي صِيغَةِ (فُعَال) كَقْولِهِ (ثُلَاث وَرُبَاع) جَاءَ مُنْسَجِمَاً مَع (ما) الموصولَة فِي قَوْلِه (مَا طَاب) التي فِيهَا نَوع مِن الإبَاحَة وَالاتِّسَاع، “وَقَدْ أَطْلَقَ سِيبَوَيه وَابن جِنِّي عَلَى صَوْتِ الأَلِف بِالهَاوِي؛ لِأَنَّهُ حَرْفٌ اتَّسَعَ لِهَوَاءِ الصَّوْتِ مَخْرَجَهُ أَشَدَّ مِنِ اتِّسَاعِ الوَاو وَالياء”، فَهَذَا الاتِّسَاعُ فِي الصَوتِ جَاءَ مُنْسَجِمَاً مَعْ إبَاحَةِ التَّعَدُّد، وَقَدْ أَضْفَى حَرْفُ الأَلِفِ، جَمَالاً مُوسيقِيَّاً، يَرْهَفُ السَّمْعَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الصَّوْتْ مِنْ أَكْثَرِ الأَصْوَاتِ مُوسيقِيَّة، وَأَوْضَحهَا فِي السَّمْعِ.
كَمَا أَنَّ الاتِّسَاعَ فِي حَرْفِ المَدِّ ظَهرَ جَلِياً وَاضِحَاً فِي الآيَةِ الكَريمَة مِنْ سُورَةِ فَاطِر، وَهْيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ﴾ وَجَاءَ مُنْسَجِمَاً مَع (مَا) فِي قَوْلِهِ (يَزِيد فِي الخَلقِ مَا يَشَاء) لِما تَحْملُ مِن مَعْنَى التَّوسُّع وَالزِيَادة، فَصِيغَة (فُعَال) انْسَجَمتْ مَع هَذَا المَعْنَى.
وَيُلاحَظُ اسْتِعْمَالُ العَدَد الاسْتِثنائِي بِصيغَةِ (مَفْعَل وَفُعَال)، مَعَ الوضعِ الاسْتثنَائِي، فَقَالَ مَثْنَى وَثُلاث وَرُباع، وَلَمْ يَقُلْ اثنَتَين اثنتين أو ثَلاثَة ثَلَاثة، لأَنَّ الزَّوَاج مِن اثْنَتَين إِلَى أَربَعَة هُوَ وَضْعٌ اسْتثنائِي، وَلَيْسَ هُوَ الوَضْعُ الأَصْلِي.
[1] . سورة النِّسَاء، آية ” 3″.
تصنيفات : قضايا و مقالات