على ضفاف الكوثر، د. أسيد فطاير
يونيو 22, 2023
للمشاركة :

على ضفاف الكوثر
بقلم: أسيد سليمان فطاير

في ظلال هذه الأيام المباركة يستحضر المسلمون أركان الإسلام ومعالم التوحيد التي تبعث في النفوس المؤمنة حيويتها وتعطيها الطاقة المتجدد اللازمة لها في كل عام وتزداد تماسكاً وتزكيةً وارتقاءً، فالحج هو أحد ركان الإسلام الخمس ولا يسع آحاد البشر فهم مضامينه التي هي معينٌ لا ينضب، فهو أكثر تعقيداً من فهمنا الطبيعي له، وهو منظومة معقدة ومتشابكة من العناصر المختلفة. ولكن على الجانب الآخر من الممكن أن نستجلي بعضاً من أسراره ضمن أفكارٍ مكتوبة ورؤى معلومة، ليس فيه انتهاكاً لهذه الإسرار التي أودعها الله في الحج، بقدر ما هو محاولة منا لفهم فطرتنا، وعلاقنا مع الفرائض التي أوجبها الله علينا.
ففي الحج مفاتيح السعادة والتواصل، وفيها ترغم النفس البشرية على التواضع طوعاً أو كرها!، وفيها يستذكر الإنسان نشأته الأولى وبأخيه الإنسان، وأنه مخلوقٌ جعله الله في الأرض لتحقيق المهمة الخالدة “خلافته فيها”، وهنا أيضاً نستذكر الميثاق الغليظ الذي أشهدنا الله عليه، وأننا عاهدنا أنفسنا ألا نحيد عنه وهو معيار الوحدانية لله، كيف لا وهذا الأمر قد استوفيت أركانه منذ بدء الخليقة وقد قلنا في حينها “بلى” ؟!، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف:172].
وفي الحج أيضاً مع هذا الميثاق الغليظ، نهرب من ذواتنا بل ومن الثقلين لنرجع إلى فطرتنا، لندور في فلك واحدٍ أوحد نتناغم فيه مع حركة الكون حول “كعبةٍ” هي مصدر الهُدى ومنع الرحمة والروحانية. راجين وآملين العون من الله والهداية منه” على بشارةِ قوله “{إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين} [الزخرف:27]، فالله خالقنا وهو هادينا، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيل} [الأحزاب:4]، فنحن برجوعنا إلى فطرتنا سندرك الهداية والرشاد، ففي الحج نبصر خرائط مفهومنا الذاتي لأنفسنا، وفيه رسم للحياة التي تَشدو الروح إليها.
وفي الحج نخرج من ثوب الطبقية لندخل في مضمار العدل والتساوي وكمال الروحية، ونخرج من ذواتنا التي يغلب عليها اليوم طابع الانتماء السياسي أو الفكري أو الأكاديمي !؟، إلى ثنائية الضعف والحاجة وذلك لمعرفة حجمنا الحقيقي. وهنا تنصهر هذه العلاقات المختلفة في بوتقةِ علاقتنا الإيمانية، من دون تدافعٍ أو تنازع مصالح، فهنا الأمر قائمٌ على معيار أوحد لا ثانيَ له وهو “التقوى”.
وفي الحج امتداد مهمٌ لبناء مجتمع الأخلاق، ليكون أهل عرفة مثلاً لتحقيق هذه الأمر، ونواةً لتحقيق التكافل الاجتماعي المبنيُ على عقيدة الإخاء، والتي يسبق فيها فضاء العطاءِ يابسة الامتناع!. وهنا تتوحد الرؤى والأهداف والغايات، وتسبك في نهج العقيدة سبكا. وفي الحج رغم استطاعةِ نفر من الأمة الوصل إليه، إلا أنه يمثل مدرسةً للأمة جمعاء، ويزيد المؤمنين يقنياً بدورهم وواجباتهم في هذه الحياة الدنيا، ويتجدد الوعي بأهمية تقديم النموذج الإسلامي الأمثل للبشرية جمعاء.
وفي الحج فلسفة الوجود الإسلامي، وهو يتجدد كل عام للقادرين على خوض غمارهِ، وفيه من الدروس والعبر التي تتجاوز أُطر الزمان والمكان، وهو يحمل آثار من سبقوا فيبقى متقداً حتى بعد مُضي الحجيج أيامهم لعامهم القادم، فالله قد بسط فيه على قلوب العباد بالرحمة والغفران، فلا يضيق المكان بأهله، وأنّا لمكان أن يضيق برحمة الله.
والحج بأركانه المختلفة تمتزج فيها كل المعاني التي تسمو بالمسلم لمرتبة “العبودية”، فمن مبتدأ “النية” والتي يتبعها التجردُ من كل شيءٍ، سوى قطعتين من القماش الأبيض، والتي تذكرنا بنقاء أنفسنا عندما نغيب عن وساوسها، وأننا رغم كثرةِ حركتنا في هذه الحياة وحُبِنا للمال والتملك حباً جما، لن نملك في نهاية المطاف سوى تلك القطعتين وأعمالنا الشاهدة علينا.
وفي الحج ركن عرفة، بل الحج هو عرفة كما أخبرنا بذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهنا يستعيد الإنسان امتزاج روحه وعقله، مع أمواج البشر الهادرة، حيث تُلغى هنا حدودنا المصطنعة، وتضعف أنفسنا الأمارة بالسوء، لتنصهر في رُقعة أرض بِساطها التُراب وغطاؤها السماء، وليس فوق هذه الترابِ إلا التراب! جاؤوا من مشارق الأرض ومغاربها واجتمعوا على هيئة واحدة في صعيد واحد، فلا عبرة هنا للألوان أو الأجناس أو الطبقات. وفي هذه الأمكنة يتعالى نداء “لبيك”، وفيها يباهي الله عز وجل بالناس ملائكته، وهو اليوم الذي يكون الشيطان فيه أصغر ما يكون، كيف لا ونحن نقول “لبيك” وهو قال “أنا” خير منه؟!، فبلبيك ندرك ضعفنا ونستمد منها قوتنا.
وفي الحج عندما ندرك مصدر ضعفنا وقوتنا، نستذكر قصة عداوتنا وتحدينا لأنفسنا مع عدونا الأول والأخير، والذي وضع الله له واجب “رمي الجمرات”، للتأكيد على أهمية المواجهة بكل السُبل الممكنة، وإن كانت أدواتها في الحج بِضع من الحصى المتناثرة، فالعبرة هنا بتجديد روح المواجهة، ولنستعيد وعينا بأصل نشأتنا وأننا ما زلنا نتعرض منذ ذلك الوقت لهذا التهديد –الشيطان-، ولنستعيد الوعي بالزمن الذي نحيا فيه.
وبعد الرجم يرجع الحجاج محلقين ومقصرين!، يعودون كيوم ولدتهم أمهاتهم، فهذا يوم التجديد يوم الفرحة والعيد، يوم لا شقاء فيه سوى للظالمين والكافرين. وبعد ذلك هناك مسار الطواف والسعي، والذي يذكرنا بأننا جزء من هذا الكون الذي يجبُ أن ننتظم في فلكه المتحرك، وأننا رغم كثرةِ سيرنا يُمنة ويسرة، وأعلى وأسفل، إلا أننا لا نزالُ تتناغم حركتنا مع سير هذا الكون الفسيح، بلا إخلال أو اختلال.
وبالمحصلة ما أُسس في الحج من معايير وأفهام شتى، سنلقاه يوماً هناك على أعتاب الجنان عند ضفاف الكوثر، ليغدو واقعا عشناه ونكرره، ولنكون مستعدين لمرحلة الخلود في آفاق جنات النعيم حيث هناك الروح والروحانية، إلى أن نصل إلى مستقر غاية النفس البشرية “بنظرةٍ” إلى وجه الرحمن وهناك تغدو الكلمات صفراً.

تصنيفات :