“نعم أنا أنوب عن رسول الله، أنتَ قلتَ للمسلمين: “هاتوا محمَّدًا يُخلِّصكم”، وأنا أنوب عن رسول الله اليوم فأخلص المسلمين من شرِّك” عبارة قالها صلاح الدين الأيوبي لأرناط بعد النّصر في حطين.
لقد كانت هذه الكلمات بمنزلة التتويج لمسيرة طويلة من البناء العقدي والفكري والإيماني لجيل أعاد للأمة قدسها وطرد عدوها، بقيادة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
إنّ معركة حطين مثلت نقطة تحول مهمة في الصراع بين المسلمين وبين الصليبيين المحتلين الغاصبين، إذ كانت البداية الحقيقية لزوالهم عن أرض المسلمين، إذ لحق هذه المعركة فتح بيت المقدس، وكان من نتائجها أسر قائد الصليبين وأمراء قلاعه ومن بينهم أرناط الذي كان يعتدي على الحجيج العزل ويسطو على قوافل المسلمين، وكان قد خطط لغزو المدينة المنورة وهدم قبر النبي عليه الصلاة والسلام.
لقد كان لهذه المعركة سبب مباشر يتمثل في قيام أرناط صاحب الكركِ بقطع طريق قافلةٍ كبيرةٍ كانت تحملُ ثروةً هائلة، وتسير من القاهرة مُتَّجِهةً إلى دمشق، وذلك في أواخر عام 1186 للميلاد، وأوائل عام 1187، وبالرغم من خطاب صلاح الدين لأرناط ومطالبته بإطلاق سراح الأسرى إلا أنّه ركب رأسه وخاطبه بوقاحة ورعونة قائلاً: قولوا لمحمد يخلِّصكم، فما كان إلا أن قام القائد المجاهد صلاح الدين بتعبئة جيش عظيم والانتصار لأسرى المسلمين وكانت معركة حطين المظفرة.
إنّ ما فعله أرناط من رعونة وتطرف وإجرام يشير بالبنان إلى من يقود عدونا الصهيوني اليوم، فبن جفير وسموتريتش ومن على شاكلتهم يمثلون أرناط هذا العصر، وستكون أفعالهم المتعجرفة والرعناء الشعرة التي ستضع دولتهم على طريق الزوال، فأعداؤنا من قوى الاستعمار ينقسمون في ظاهر تعاملهم معنا إلى نوعين، نوع متعقل يتبع أسلوب المهادنة في تقسيمنا، فيعطي القليل للبعض ليحيّدهم عن الصراع، ويقمع الثابتين، ويظهر أنه يسعى للسلام والتعايش، ونوع آخر يصرّ على إظهار وجهه الحقيقي الحاقد فيبطش ويرتكب المجازر ولا يخفي أحقاده الدينية، وهذا النوع إذا ساد فإنه سيعجل في زوال كيانه كما فعل أرناط مع صلاح الدين.
حطين كانت النتيجة الحتمية لمسيرة طويلة من البناء، بدأت منذ الأيام الأولى لاحتلال بيت المقدس، من حلقة العالم الكبير زين الدين الهروي، حينما استطاع أفراد من المسلمين الهرب من المجزرة التي اقترفها الصليبيون في بيت المقدس عند احتلاله، حيث قام هؤلاء الأفراد بحمل مصحف عثمان والهرب به إلى دمشق ودخلوا مسجدها وعرضوا أمرهم على العالم الهروي، الذي بدأ حراكا في الأمة لحث المسلمين حكاما وأفرادا على نصرة بيت المقدس، ونتج عن هذا الحراك ظهور النواة الأولى لحركة المقاومة الإسلامية التي قادها القائد المجاهد مودود بن التونتكين أتابك الموصل، أدرك مودود أهمية المقاومة وبدأ بمقاومة الاحتلال مع ثلة من المجاهدين استطاعوا فك حصار حلب والانتصار في معركة الصّنابرة ( 1113م) فكان أول انتصار للمقاومة.
إنّ هذه المقاومة التي بدأها مودود بتأييد من علماء وشرفاء الأمة لاقت خذلانا من خور زعماء الأمة، وتطبيع بعضهم مع الاحتلال الصليبي كأمير حلب رضوان، الذي وصل به الحال بأن وضع الصليب على قبة المسجد إرضاء لأعدائه، وحتى خيانة البعض الآخر التي وصلت لاغتيال مودود على يد فرقة الحشاشين بإمرة أمير دمشق، ولكن وبرغم هذا الخلان وهذه الخيانة لم تتوقف مسيرة المقاومة وأكملها تلميذ مودود الذي اشتهر بعماد الدين زنكي ومن بعده ولده نور الدين وأخيرا تلميذهم صلاح الدين الأيوبي، وما أشبه الأمس باليوم حيث نرى الخذلان لشباب فلسطين المقاوم من القريب والبعيد، والهرولة للعدو المحتل من أشباه الرجال ولكن الذي رعى مسيرة مودود سيرعى مسيرة جهاد ومقاومة فلسطين.
إنّ الأجداد في معركة الصنابرة بقيادة مودود مهدوا الطريق لأحفادهم في حطين، فحطين بدأت من الصنابرة، وصلاح الدين بدأ من جده في المقاومة مودود، وبين هذه وتلك مسيرة بناء جيل النصر، هذا الجيل الذي تميّز بصفات مخصوصة أدركها المؤسسون وهي الوحدة والإيمان العميق بالقضية والقرب من الله والمقاومة للعدو المحتل، فوحدوا مصر والشام حول القضية الجامعة بيت المقدس، ورسخوا الإيمان العميق في نفوس الجند بأهمية القضية ومركزيتها لمستقبل الأمة، وحرصوا على تربيتهم تربية إيمانية حقيقية تجعل الفرد مقبلا على الشهادة بنفس راضية، واستمروا بالمقاومة حتى ظفروا بحطين.
إنّ جيل حطين يتراءى للمبصر اليوم، في شباب فلسطين المجاهد الذي تبرز فيه عزمات صلاح الدين ونقاء مودود وتجرده، وفي المقاومة الثابتة على الطريق، ورعونة أرناط وحماقاته حاضرة في عقلية الاحتلال، وبين الأمس واليوم لعل الله يفيض على الأمة بحطين جديدة تعيد المسرى والأسرى وتشفي صدور قوم مؤمنين.
تصنيفات : قضايا و مقالات