قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) آل عمران
تُذكِّرُ مناسكُ الحج بنبي الله إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام، ويتفيأ المؤمنون هذه الذكريات الإيمانية في عيد الأضحى المبارك. فإبراهيم هو الذي رفع القواعد من البيت، وهو الذي نادى في الناس بالحج، فاستجابت البشرية نداءه، يحجون بيت الله المحرّم من كل فجّ عميق.
والمتدبّر لكتاب الله سبحانه يلاحظ خصوصية نبيّ الله إبراهيم u، فالأنبياء الذين ذكرهم الله سبحانه قبله كذّبتهم أقوامُهم، فأهلكهم الله. أمّا إبراهيم عليه السلام فكان الأرومة لمسيرة إيمانية تمتدّ خلال التاريخ، فمن نسل ولده إسحق كانت بنو إسرائيل، ومن نسل ولده إسماعيل ولد سيّد الخلق r، فإبراهيم هو أبو الأنبياء، وهو الذي تدّعي الأمم الانتماء إليه، وكانت حركته في الأرض ممتدة في العراق والشام والحجاز ومصر. فهو الحلقة الأولى في عموم الرسالة وخلودها، وهذا العموم والخلود هو الذي اكتمل برسالة محمد r. ولذا يتكرر في آيات القرآن عن إبراهيم u ذكر كلمة “الناس”. قال تعالى: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، وقال: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)، والكعبة هي أول بيت وضع للناس، وفريضة الحج التي ترتبط بإبراهيم هي الفريضة التي يظهر فيها عموم الرسالة، وهي التي يجتمع فيها المؤمنون من كل بقاع الأرض.
ولأهمية الحقائق المذكورة في الآتيتين 95 و96 من سورة آل عمران جاء النظم المعجز بمؤكدات، وأول ذلك قوله تعالى (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ)، وهي عبارة لم تأت في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، لتدلّ على أنّ ما يذكره الله سبحانه عن إبراهيم u هو الحقيقة المطلقة المطابقة مطابقةً كاملة للحقيقة، وفي العبارة تعريض بكذب أصحاب الكتب المحرّفة فيما ينسبونه لإبراهيم u. ورتّبت الآية على ذلك الأمر باتّباع ملته. والملّة كما يرى الراغب “كالدّين، وهو اسم لما شرع الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء ليتوصّلوا به إلى جوار الله، والفرق بينها وبين الدّين أنّ الملّة تضاف إلى النّبيّ عليه الصلاة والسلام الذي تسند إليه… وتقال المِلَّة اعتبارا بالشيء الذي شرعه الله. والدّين يقال اعتبارا بمن يُقيمه”، وأصلها من أمللت الكتاب.
ووصفت الآية إبراهيم u بكونه حنيفا، والحنف هو الميل كالجنف، إلا عن الحنف هو الميل عن الشر إلى الخير، فالحنف هو ميل عن الضّلال إلى الاستقامة، والجنف: ميل عن الاستقامة إلى الضّلال. ونفت الآية عن إبراهيم u الشرك كله، فقوله تعالى: (وما كان من المشركين) ردّ حاسم على من يزعم الانتماء عليه مع عقيدة خالطها أوهام المحرفين، وعقائد المجسمين والمثلثين، فإبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيّا، ولا يمثّل إلا عقيدة التوحيد.
وقوله تعالى (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا) واقع موقع التعليل للأمر باتباع ملة إبراهيم u، لأن فضائل هذا البيت تحقق فضيلة شرع بانيه، والحرف “إنّ” يؤكد الجملة بعده، وكثيرا ما يجعلها واقعة موقع التعليل لما قبلها.
ويبعد غاية البعد أن تكون البشرية قبل إبراهيم u لم تعرف بيوتا ومساجد للعبادة، ولكنها بيوت تخصّ الأقوام التي يتعبّدون فيها، أمّا بيت الله الحرام فهو البيت الذي وُضع للناس كلّهم، ممّا يجعله رمزا لعالميّة الدين وخلوده، وجاء الكلام عن وضعه للناس كلهم مرتبطا بذكر إبراهيم u، وهو الذين أذّن في الناس ليحجّوا إليه من البقاع كلها.
وأمّا الفعل (وُضع) ففسّره الشيخ ابن عاشور بأنّ معناه أُسّس وأُثبت. وأصل الوضع عنده: أنه الحط ضد الرفع، ولما كان الشيء المرفوع بعيدا عن التناول، كان الموضوع هو قريب التناول، فأطلق الوضع لمعنى الإدناء للمتناول، والتهيئة للانتفاع.
والظاهر عند ابن عاشور أن بكة اسم بمعنى البلدة، أصله من اللغة الكلدانية، لغة إبراهيم، ألا ترى أنهم سموا مدينة (بعلبك) أي بلد بعل الذي هو معبود الكلدانيين، ومن إعجاز القرآن اختيار هذا اللفظ القديم الذي هو الاسم الأول عند ذكر كونه أول بيت.
وقد وصفت الآية البيت بكونه مباركا، ولفظ البركة يرجع إلى معنيين، هما الاتساع والثبوت، والبركة هي الخير الواسع الثابت، وعرّفها الراغب بأنها: ثبوت الخير الإلهي في الشيء. وبركة البيت تشمل ما أفاضه الله عليه البركات الحسيّة والمعنويّة، فإليه تهوي أفئدة المؤمنين، وإليه تُجبى الثمرات، وعنده يجتمع المؤمنون من كل المعمورة، وفيه تتوحد قلوبهم على طاعة الله. ولا تزال بركته خالدة إلى يوم الدين، ومن بركاته أن يكون فيه الردّ على كلّ من يريد أن يلبس عقيدة الإسلام بشائبة تمليها الأهواء الضالة.
تصنيفات : قضايا و مقالات