في لجة الدنيا التي تجري بنا بلا هوادة، وفي دوامة الماديات التي تسحبنا بلا رحمة، نجد أنفسنا نلهث خلف مغريات الدنيا الفانية، نريد الاستكثار من المال والأولاد والمناصب والمعارف، إلى أن نصل آخر العمر حاملين أوزارا سنحاسب عليها، دون أن نكون قد أعددنا لآخرتنا الزاد والعتاد.
ويتجلى هذا المعنى في الآيات الكريمة من سورة التكاثر، في صورة بليغة تهز القلوب وتنذر الإنسان بعاقبة الهرولة وراء أسباب التباهي والتفاخر من مال وولد، في غفلة عن سرعة المسير وعسرة المصير، ليجد الإنسان نفسه تحت التراب ينتظر يوم الحساب.
يقول تعالى: “أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ (1) حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ (4) كَلَّا لَوۡ تَعۡلَمُونَ عِلۡمَ ٱلۡيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ ٱلۡجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيۡنَ ٱلۡيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسۡـَٔلُنَّ يَوۡمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ(8)”.
إن المتأمل لهذا الخطاب الرباني لا بد أن يداخله الفزع ويقف متأملا حاله ومآله، خطاب شديد اللهجة، في كل حرف فيه إنذار ووعيد، مليء بالأساليب التي تؤكد أن المتكاثر المتفاخر سيؤول إلى القبر منتظرا الجحيم عقابا على ما قام به في الدنيا.
والذي يظهر من معاني السورة وغلظة وعيدها أنها مكية، وأن المخاطب بها فريق من المشركين؛ لأن ما ذكر فيها لا يليق بالمسلمين آنذاك، وقد نزلت الآيات الكريمة في المشركين من بني عبد مناف وبني سهم من قريش، حين تفاخروا وتنازعوا أيهم أكثرعددا، وكان بنو عبد مناف أكثر عددا، فقال بنو سهم: فلنعدّ موتانا لنرى أيُّنا أكثر عددا، فزاروا القبور فعدّوا أمواتهم، فكثُر بنو سهم على بني عبد مناف لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية، ( ابن عاشور ، 30\ 519).
إن الخطاب في هذه السورة الكريمة خطاب قوي وجرسه شديد، يظهر فيه التقريع، ويشتد فيه الوعيد، من أول السورة عند الإقرار بأن التكاثر والتفاخر قد ألهاكم أيها الغافلون حتى بلغ بكم الأمر أن تعدوا الأموات، إلى التأكيد بأن الحساب والعقاب على النعيم الذي كنتم فيه وأنكرتموه لا بد آت.
وتخاطب السورة الكريمة البشر كافة، لا مشركي قريش وحسب، فالتكاثر والتباهي يلهينا عن الدنيا وشكر النعمة إلى أن يأتي أجلنا ونحن في غفلة، وبالنظر إلى السورة الكريمة نرى كثرة وشدة المؤكدات على يقين الحساب، إذ بدأت الآية الكريمة بالفعل الماضي ” ألهاكم ” بما يحمله الماضي هنا من التقرير والتأكيد على ما فعلوا.
أما ” كلّا ” فقد جاءت للردع والزجر، وكأنه عز وجل ينهر ويقرِّع المتكاثر بعدده وماله بصوت عالٍ وبلفظ حادّ قوي ” كلّا ” مرة تلو الأخرى لتوحي بشدة غضبه عز وجل، وبالرهبة من شدة وعيده، هذا مع اقتران “سوف” بالفعل المضارع ” يعلمون ” للتأكيد على ما سيأتيهم من عقاب.
كما أن التوكيد اللفظي للآيات جاء ليزيد من شدة الوعيد، خاصة مع اقترانه بحرف العطف “ثم” الذي يفيد التراخي ويؤكد بشدة على المصير الذي سيأتيهم، فكانت الآية الثانية تحمل معنى أشد وأقوى في الإنذار والوعيد، الذي تجلى في الثالثة، مع حذف جواب الشرط ” لو تعلمون ” للتهويل والتخويف، فكأنه يقول لهم لو تعلمون ما سيأتيكم من عقاب لفعلتم الكثير لتردوه. مع إضافة العلم لليقين في “علم اليقين” حيث جعل رؤية الجحيم يقينا لا شك ولا جدال فيه.
وهكذا يتتابع الخطاب بلهجة شديدة في كل مفردة وحرف، إلى أن وصلت الآيات إلى مصير من يُنكر ويجحد نعمَ خالقه، وهو الجحيم، وذلك في ” لترونّه ” الثقيلة في لفظها كثقل معناها، فقد جاءت لام القسم ونون التوكيد الثقيلة للتأكيد على حتمية ويقين رؤية الجحيم.
كما أن تكرار ” لترونه” واقترانها بحرف العطف ” ثم” وبالتعبير عن المعنى بـ “عين اليقين ” يدخل النفس في خوف شديد بل في محاسبة عسيرة، علّها ترجع عن طمعها وغفلتها في هذه الدنيا الفانية.
فيا لهذا الخطاب الشديد الذي تتوالى فيه الأساليب وتتجلى فيه المعاني لتنذر الخلق، حين ينسون أنهم بشر موهومون بالدنيا، محكومون بأعمالهم، ومرهونون برحمة الله يوم حسابهم.
ولعل من أجمل ما جاء في تفسير هذه الآية الكريمة قول سيد قطب رحمه الله في ظلاله :” وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها.. حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض، ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي به مثقلا في الطريق، ثم ينشئ يحاسب نفسه على الصغير والزهيد.”
تصنيفات : قضايا و مقالات