إن المتأمل في رحلة الهجرة النبوية يجدها مليئة بالدروس والعبر التربوية والحياتية التي نستلهم منها كثيرا من المعاني التي من شأنها أن تكون ملهمة خلال مسيرة حياتنا اليومية وأعمالنا المؤسساتية وأدوارنا المجتمعية.
تتعدى أهمية ذكرى الهجرة النبوية تلك المعاني الظاهرة إلى تلك الباطنة التي فيها الكثير من الدروس والعبر والأفكار والثمار والمعاني والعبارات، ابتداء بالتفكير بتلك الحادثة مرورا بالتخطيط لها وصولا إلى ثمراتها ومخرجاتها.
لعل من أبرز ما تتميز به رحلة الهجرة ما حظيت به من تخطيط وتدبير القائد المحمدي عليه أفضل الصلاة والتسليم وأشرك به بطانة الخير التي من حوله التي كانت له عونا وسندا ورفقة وجندا مطيعين منذ اللحظة الأولى التي عزم فيها على الهجرة وصولا إلى مواكب الاستقبال في المدينة المنورة.
وهنا وإذا أردنا أن نتحدث عن مظاهر التخطيط والتدبير لرحلة الهجرة فإننا نجدها مليئة بالوقائع والأفعال التي تدل على بعد النظر وعمق التفكير والإبداع في الطرح، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم أولا يختار صديق السفر بعناية ويحظى أبو بكر الصديق بهذا الانتقاء ثم يتجهزان معا إلى هذه الرحلة العظيمة، ويتزودان بما يحتاجه من زاد للسفر ثم يعينان من يأتيهما بالأخبار ويغطي على آثار سفرهما ويمحو آثار أقدامهما، وقبل ذلك يستعينون بعلي بن أبي طالب الفدائي الأول في الإسلام كي يراوغ وينام في فراشه متظاهرا بأنه النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي كان ينسحب فيه النبي صلىالله عليه وسلم وصديقه إلى خارج مكة وصولا إلى التحصن في غار ثور آخذين بالأسباب.
ولعل التصرف الثاني والمظهر الثاني الدال على متانة الهجرة النبوية ودروسها هي ضرورة الإعداد والتجهيز والتحضير، بمعنى الأخذ بالأسباب؛ فهذا محمد النبي المعصوم الذي رعته الملائكة بأمر الله لم يكتفِ بهذه الرعاية بل إنه أخذ بالأسباب وأسباب النجاح منذ البداية حتى النهاية، وذلك ليقول لنا جميعا بأن الوصول إلى الأهداف والغايات لا يحتاج فقط إلى الدعاء أحيانا أو الإيمان أحيانا أخرى وحسب، بل يحتاج إلى أخذ بالأسباب من خلال ممارسات عملية كيلا يبقى مكان للفشل أو الإحباط.
وإن المتأمل في رحلة الهجرة وما رافقها من متاعب ومشاق لاحقت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه يدرك بأن القائد الفذ هو الذي يتحمل كل أصناف العذاب في سبيل الرعية وفي سبيل الهدف العام؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم ما كان له أن يتحمل هذا إلا من أجل دعوته الربانية، ومن أجل أتباعه الذين سبقوه بالهجرة إلى المدينة، ولكي يحافظ على كنز ثمين بدأ في مكة ولا بد أن ينهض به في المدينة.
ولعل درسنا الرابع المتمثل في التضحية في والمال والأهل الذي وجدناه في سيرة محمد في أثناء الهجرة لهو دليل آخر على أن ما قام به محمد صلى الله عليه وسلم تجاوز الحظوظ الشخصية والأطماع الدنيوية، وكان كله أمل وثقه بأن الله سوف يعوضه أولا بمتانة دعوته وقوتها وصولا إلى العودة لدياره في يوم ما وفتحها مجددا ورفع اسم الله فيها جهارا نهارا دون خوف أو تردد وهذا يدعونا -نحن المسلمين- إلى التمعن في كل ما يدور حولنا من ابتلاءات ومشاق، وكأننا لابد أن نؤكد على المقولة القائلة اشتدي أزمة تنفرجي فإن الفارج الله..
وما أن وصل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، حتى أضاءت الدنيا بنوره ونور دعوته، وكأن درسنا الأخير يقول لنا بأن الزرع وإن كان صعبا فإن الحصاد ينسينا تعبه وأن جمال الإسلام عندما وصل به محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليزيل منها أشكال الشرك والكفر ويوحد قلوب المسلمين وينهي حقبة من الجاهلية والعداوة ويرسخ مبادئ الدولة الإسلامية لأجمل ثمار يمكن أن تتحدث عنها البشرية حتى قيام الساعة.
وبعد الهجرة لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بما أنجز بل أسس معالم الدولة وبنى الحاضنة الأولى لها (المسجد)، وغسل العقول والقلوب ، ومن ثم انطلق يرتب الصفوف ، ويشحذ الهمم ، حتى بات قوة يخشاها الجميع ويحسب لها ألف حساب.
نجح النبي صلى الله عليه وسلم في الفرار بدينه والحفاظ عليه حتى وصل إلى العالمية، ولو أنه لم يكن يحمل في قلبه ذلك الإيمان العظيم ولم يمتلك النظرة الثاقبة المستقبلية، ولو أنه لم يأخذ بأسباب النجاة تحت ذريعة أن الله سيحميه، لما وصل الإسلام إلى ما وصل، وما كنا اليوم نعيش عظمته وقوته.
تصنيفات : قضايا و مقالات