يقولُ اللهُ تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
وقعَ في هذهِ الآيةِ استبدالٌ جُمليٌّ مع الآيةِ التاليةِ، وهيَ قولُهُ (تعالى): ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾، إذ استُبدِلتْ جملةُ (وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) بجملةِ (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)، “والمرادُ ممَّا أُهِل لغيرِ اللهِ به: ما ذُكِرَ غيرُ اسمِ اللهِ عليهِ عندَ الذبحِ”، وإنْ كانتِ الجملةُ الأولى تنفي الإهلالَ (رفعَ الصوتِ) عن اسمِ اللهِ، والثانيةُ تثبتُ ذِكرَ اسمِ اللهِ، إلا أنَّهُ لمْ يقلْ في الأولى (ما لم يُذكرْ اسمُ اللهِ عليهِ)، ولا في الثانيةِ (أهلُّوا اسمَ اللهِ عليه)؛ وذلكَ لتحقيقِ الاستبدالِ الجمليِّ، بمطابقةِ الكلامِ لمقتضى الحالِ، فقد كانَ المشركونَ في الجاهليَّةِ يهلُّونَ (يرفعونَ أصواتَهم) عندَ الذبحِ، فيقولونَ: باسمِ اللاتِ والعزى، فأصبحَ المسلمونَ، مِن بَعدُ، يذكرونَ اسمَ اللهِ عندَ الذبحِ، فجاءَ هذا الاستبدالُ رابطًا الكلامَ بسياقِ الحالِ من جهةٍ، ومُحقِّقًا للتَّماسكِ النصيِّ مِنْ جهةٍ أخرى.
ووقعَ فيها أيضًا حذفٌ لشبهِ الجملةِ (من بهيمةِ الأنعامِ) مرتينِ، الأولى تعلقتْ بالفعلِ (ذكيتُم)، والتقديرُ: “إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ من بهيمةِ الأنعامِ”، والثانيةُ تعلقتْ بالفعلِ (ذُبِحَ)، والتقديرُ: “وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ من بهيمةِ الأنعامِ”، ودليلُ هذا الحذفِ مقاليٌّ قبليٌّ، بقرينةِ قولِهِ ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ﴾، في الآيةِ الأولى من السورةِ، ووجهُ ذلكَ الحذفِ أنَّ محورَ الكلامِ في هذا المقطعِ من السورةِ هوَ (بهيمةُ الأنعامِ)، فلمَّا صرَّح بهِ في الآيةِ الأولى حذفَهُ في الآياتِ التالياتِ؛ لحضورِهِ في الذهنِ، ودفعًا للتكرارِ، الذي يؤدي إلى طولِ الكلامِ.
وكذلكَ وقعَ فيها حذفٌ اسميٌّ للفاعلِ (اللهِ)، ببناءِ الفعلِ (حُرِّمَ) للمفعولِ، في قولِهِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾، وتقديرُ الكلامِ: (حرَّمَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ)، ودليلُ هذا الحذفِ القرينةُ المقاميَّةُ، ذلكَ أنَّ الفاعلَ معلومٌ في ذهنِ المتلقي، فقد قررتِ العقيدةُ الإسلاميةُ أنَّ المُحرِّمَ هوَ اللهُ، ويؤكِّدُ ذلكَ قولُ بعضِهم: إنَّ الفعلَ (حُرِّمَ) معطوفٌ على الفعلِ (أُحِلَّ) في الآيةِ الأولى من السورةِ، فمِن المعلومِ، أيضًا، أنَّ المُحلِّلَ هوَ اللهُ، وربَّما يكونُ دليلُ الحذفِ قرينةً مقاليَّةً قبليَّةً، في الآيةِ السابقةِ، وهيَ قولُهُ (تعالى): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ﴾، فلمَّا أضافَ تلكَ الشعائرَ للهِ، حَسُنَ بعدَها حذفُ الفاعلِ (الله) من الفعلِ (حُرِّم)؛ لأنَّهُ باتَ معلومًا أنَّ تلكم الشعائرَ المحرماتِ خاصةٌ باللهِ، ولولا هذا الحذفُ لذُكِر الفاعلُ غيرَ مرةٍ في هذهِ السورةِ، وتكرَّرَ تكرارًا مُخِلًّا.
وتكررَ فيها الأصلُ اللغويُّ (حرم) تكرارًا اشتقاقيًّا جزئيًّا، إذْ وردَ في سائرِ آياتِ السورةِ سبعَ مراتٍ في مواضعَ متفرقةٍ مِن السورةِ، وسرُّ هذا التكرارِ أنَّ هذهِ السورةَ اشتملَتْ على جملةٍ من الأحكامِ الشرعيةِ المُحرَّمَةِ، كالخمرِ والميسرِ، والأنصابِ، والأزلامِ، والصيدِ في حالةِ الإحرامِ، وأطعمةٍ مِن الذبائحِ، وبعضِ الجرائمِ.
وفي هذِهِ الآيةِ ثلاثُ مصاحباتٍ معجميَّةٍ، مع آياتٍ أخرى:
- علاقةُ التضادِّ أوِ المقابلةِ: وردَ التضادُ بينَ قولِهِ: “حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ”، وقولِهِ في الآيةِ التاليةِ: “أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ”، فلمَّا بيَّنتِ الآيةُ الأولى المحرماتِ، استدعى ذلكَ ذِكْرَ المُحلَّلاتِ، فربطتْ
بينَ الشيءِ وضدِّهِ، وتتابعَ الحُكْمانِ الشرعيَّانِ على نَسَقٍ واحدٍ؛ ليؤكِّدَ كلٌّ منهُمَا الآخرَ، باعتبارِ علاقةِ التضادِ، فبدا الحُكْمانِ، بمفهومِهما الشرعيِّ، أكثرَ تفصيلًا ووضوحًا ورسوخًا في ذهنِ المتلقي.
وكذلكَ جاءَ التضادُ بينَ قولِهِ في هذهِ الآيةِ: “فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ”، وقولِهِ في آيةٍ سابقةٍ: “إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ”، وقد جاءَ هذا التضادُ مُنسجِمًا مع السياقِ المقاليِّ في هذا الفصلِ من السورةِ، فإنْ كانَ لأفعالِ الإنسانِ وصفانِ متضادانِ: حلالٌ وحرامٌ، فإنَّ ذاتَ اللهِ لها وصفانِ متضادانِ: شديدُ العقابِ، وغفورٌ رحيمٌ، يقابلانِ وصفَيِ الإنسانِ، وهذا ما يدعُو المتلقيَ إلى الوقوفِ على ترتيبِ هذهِ المتقابلاتِ في ذِهْنِهِ، فيشعرُ بترابطِ النصِّ وتماسُكِهِ.
- علاقةُ التلازمِ الذِكْريِّ: جاءتْ هذهِ المصاحبةُ في هذهِ الآيةِ في قولِهِ: “مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ”، وفي آيةٍ سابقةٍ عندَ قولِهِ: “وَلاَ الْهَدْيَ”، ووجهُ ذلكَ أنَّهُ يلزمُ مِن التذكيةِ والذبحِ على النصبِ ذاتٌ مذبوحةٌ، وهيَ الهدْيُ، ويؤكِّدُ هذا التلازمَ بينَهُمَا قولُهُ تعالى في موضعٍ آخرَ: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ…﴾، “وكَانَ الْمُشْركُونَ يحجُّونَ البيتَ الحَرَامَ ويهدونَ الهَدَايَا، ويعظِّمونَ حُرْمَةَ المشاعرِ، وينحرونَ فِي حجِّهم، فَأَرَادَ المسلمُونَ أَنْ يُغيرُوا عليهِم، فَقَالَ اللهُ: ﴿لَا تحلُّوا شَعَائِر اللهِ﴾، وَفِي قَولِهِ ﴿وَلَا الشَّهر الحَرَامَ﴾ يَعْنِي لا تستحلُّوا قتالاً فِيهِ، ولا الهَديَ ولا القَلائِدَ، أمَّا الآيةُ الثانيةُ، فقدْ جاءتْ لتُبيحَ ذَبحَ الهديِ في غيرِ هذهِ الحالِ.
علاقةُ الانتماءِ إلى مجموعةٍ غيرِ منتظمةٍ، أو الارتباطِ بموضوعٍ مُعيَّنٍ: جاءتْ هذِهِ المصاحبةُ في هذه الآيةِ عندَ قولِهِ: “وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ”، فهذه الألفاظُ الخمسةُ جاءتْ منتميةً إلى مجموعةِ البهائِمِ الواردةِ في الآيةِ الأولى من السُّورةِ “أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ”، وقد اجتمعتْ هذهِ الأصنافُ مِنْ بهيمةِ الأنعامِ؛ لتدلَّ على ما حُرِّم منها، فبدتْ مترابطَةً فيما بينَها مع لفظِ الموضوعِ، أو المجموعةِ (البهائمِ)، بنسقٍ سياقيٍّ واحدٍ.
تصنيفات : قضايا و مقالات