التعليم بكل أشكاله هو عماد الأمم والمجتمعات، وبه تتفوق أمة على أخرى، كما أننا نعلم جميعا المكانة التي أولاها الدين الإسلامي للتعليم، أولها مما ابتدأ به وحي السماء بقول الله تعالى لنبيه الكريم: (اقرأ) ومرورا بكل الآيات والأحاديث التي تفضل وتكرم العلم وأهله.
وجرت العادة في العالم خلال أكثر من قرن بقليل على أن يتم تلقي العلم بصورة منظمة من خلال المدارس، وإرسال الطفل في عمر محدد ليمر بمراحل معرفية مختلفة، ضمن نظام معرفي منهجي وبيئة علمية محددة، ويخرج بمخرجات يعترف العالم بها مستوىً تعليميا يقيّم من خلاله الأفراد وقدراتهم. ثم يتحول الطالب بعدها إلى الجامعات التي تُخرج الطالب بنظام تعليمي آخر مختلف ليكون متخصصا في أحد المجالات. وكثيرا ما يغفل الأهل عن هذه الحقيقة، حول أصل العلم والمعرفة بصورته الحالية، التي أصبحت نمطية، ويغرقون في تفاصيلها، ويدخلون أبناءهم في نظامها دون أن يفكروا في طبيعة العلاقة معها، وإلى أي درجة يمكن ربط أبنائهم بها؟ وكيف تؤثر على طريقة تفكيرهم؟ أو نظرتهم إلى صورة أنفسهم حين ننتبه إلى سلبيات الدخول فيها بشكل واع.
وبناء على هذه الغفلة السائدة إلى حد ما، نسي بعض المربين الأصل العلمي والمعرفي حد إغراق الأبناء في النظام التعليمي المدرسي دون وعي كافي بالقدر الذي يلزم لفعل ذلك، نسي بعض المربين أن أصل العلم والمعرفة أوسع بكثير من هذا النظام، وبأن ربط أذهان الأبناء فقط به مصدرا معرفيا وعلميا هي طمس لحدود قدراتهم وآفاق تفكيرهم، وحصر لأنفسهم في حدود نظام عالمي فيه الخير والشر في ذات الوقت، وبأن هذا الربط يسيء إلى نفوس الأبناء حين يمتدح ويضخم من يحصلون العلامات مهما حاولنا تغيير هذه الحقيقة، ومهما حاولنا خلق بدائل استدراكية لها، ويقلل من شأن من لا يحصلون العلامات ومن نظرتهم ﻷنفسهم، ويحصرهم عن تلقي المعرفة والسعي في مجال العلم، لمجرد أنهم كانوا أقل من غيرهم في مجالات التعليم المدرسي. كما أن إدخال الأبناء إلى النظام التعليمي القائم دون وعي بالعلاقة الصحية معه، أدت أيضا إلى تحويل العملية التعليمية إلى أمر فيه رتابة وحصر للتفكير عن الإبداع لدى كثير من الحالات، وإدخال الطالب في بيئة تنافسية ضاغطة، وتحويل الأهل في ذات الوقت إلى ذات الحالة التنافسية من باب شعورهم بالمسؤولية التربوية تجاه أبنائهم، فيدخل اﻷهل في علاقة ضغط تربوي كبير مع أبنائهم، لدفعهم للتميز الدراسي. بل وقد يصل الأمر ببعض اﻷهل إلى الحكم على صورة أبنائهم بين اﻷقارب واﻷقران بناء على مستواهم الدراسي.
ومع الوقت وجدنا أن التعليم المدرسي تحول من نظام تعليمي يمر فيه الأبناء لمرحلة ما؛ وهو جزء فقط من عملية تربيتهم الأوسع واﻷكبر التي تحتاج للكثير من العناصر للعمل عليها داخل البيت، إلى نظام معقد وضاغط للمربين والأبناء على حد سواء، يستغرق فيه الطرفان جهدا نفسيا واجتماعيا حساسا ودقيقا، على حساب الاستثمار بكل رحابة صدر في ميادين أخرى. مثل التعليم المهني والتربية الأخلاقية والعمل التطوعي، وبناء المهارات الحياتية، وفقدت الأسرة المتعة وحرية التفكير في مستقبل أبنائها خارج إطار المنظومة التعليمية المدرسية. وأصبحنا نجد الابن يبلغ أعواما من عمره وهو لا يزال يتم التعامل معه في قالب الطالب المدرسي الذي له حدود وقيود ومصدر للحكم عليه كإنسان وعلى مستقبله، ولا يكاد يخرج من هذا المستنقع الذي غرق فيه لسنوات طويلة ويستدرك حياته سوى بعد سنوات من إنهاء المدرسة.
والأسوأ من هذا كله؛ هو نموذج الأسرة التي ترمي بالطفل إلى المدرسة لتمسح من ذهنها مسؤولية ما يمكن فعله تربويا وعلميا بحق الأبناء، ويترك الابن لمواجهة مصيره هناك حسب قدراته، فإما أن ينجح ويجد طريقا ما لنفسه، أو تتحول المدرسة إلى جحيم أو مكان للعبث يزوره بشكل يومي. وهذا كله لا يعني ألا يدخل أبناؤنا المدارس، أو لا نهتم كمربين بوجودهم فيها، ولكن المطلوب هو التوازن أولا لدى المربين في وعيهم بمعنى دخول الابن للنظام التعليمي المدرسي، وحجمه الصحيح في حياتهم، ومتى يهتمون للتركيز فيه، ومتى يهمشون ما يلقى على الأبناء من خلاله، وكيف يحاولون تعويض الحلقات الناقصة من شخصيته وبنائه الإنساني بالعمل المتكامل دون إفراط أو تفريط. كما يجدر بالمربين بناء علاقة من الحب والإرادة والصبر ما بين الأبناء وفكرة التعلم، وعدم تحويل العملية التعليمية إلى عملية ضاغطة تقتل نفوسهم، أو تورثهم الغضب تجاه محيطهم، أو تجعلهم ينظرون ﻷنفسهم نظرة دونية قد ترهقهم لسنوات طويلة من حياتهم وهم يحاولون القفز عنها وتجاوزها، وأن تكون أولوية المربي هي التشبيك السوي ما بين عقل ابنه والعملية التعليمية، فلا يتدخل في تفاصيلها ولا يتحول إلى مسؤول عن حركة المعرفة في عقل ابنه بحرص مبالغ، وينتبه إلى أن المبالغة في التركيز على كمية مذاكرة الابن والضغط عليه، تقتل أهم قيمة في حياته وهي الحرية، الحرية في أن يذاكر بأسلوبه وسرعته الخاصة، ويتحول المربي إلى دافع نحو التعلم ومحفز، لا إلى سيف مسلط على رقبة الطالب يرهقه ويخيفه من الفشل والتأخير طوال الوقت.
كما يجدر بالمربين أيضا خلق الوعي ذاته في عقول أبنائهم حول حجم علاقتهم بنظام التعليم المدرسي، وحقيقة حجم النجاح أو الفشل فيه مقارنة بقيمتهم كونهم أفرادا فاعلين في مجتمع تتنوع فيه مصادر المعرفة والنجاح. وبأن التحدي للتمايز في الحياة هو عملية متكاملة ما بين المدرسة والواقع، وبأن طريق العلم والمعرفة طويل لمن وجد فيها طريقا، وما المدرسة إلا مرحلة منظمة لذلك، وبأن حبه لما يتعلمه وإتقانه وامتلاك النية الصحيحة فيه أساس، وبأن التعلم يجب أن يكون برغبة وإرادة ذاتية وصبر منه، وأن ذلك أهم من غرقه في إثبات ذاته أمام أهله والمجتمع.
وفي النهاية أود التذكير بسؤال دائما ما أطرحه على اﻷهل، لمساعدتهم على التفكير قليلا بإعادة النظر إلى العلاقة السوية مع المدرسة، ألا وهو؛ متى سألنا أبناءنا إن كانوا فعلا يريدون الذهاب للمدرسة أم أنهم لا يريدونها؟ قد يبدو السؤال خطيرا للبعض، وهو لا يعني أن نخيرهم فعلا فيه، ولكنه يعني أننا ومنذ اللحظة اﻷولى التي يتوجه فيها أبناؤنا للمدرسة أن نزرع لديهم فكرة توعيهم بأن المدرسة هي خيار بالنسبة لهم ولنا، ونوضح لهم طبيعة الخيارات الأخرى المتوفرة دون المدرسة، نحاورهم باستمرار حول النظام التعليمي المدرسي وفكرة اختياره طريقا للتعلم، ثم نجعلهم يمضون في المدرسة وهم يدركون أنهم ليست المكان اﻷمثل في الحياة لهم بشكل مطلق، ولكنها الخيار الأمثل المتوفر ﻷجلهم، فيصبح ذهابهم إلى المدرسة ليس مجرد عملية روتينية يوضع فيها الإنسان دون تفكير أو وعي، وبأن العيوب التي سيواجهها الابن في أثناء مراحل الدراسة هي أمر طبيعي وخيار هو يختاره ويتحمله، وليست أمر يضطر المربي لتجميله في عيني ابنه لدفعه للاستمرار في الذهاب للمدرسة.
تصنيفات : قضايا و مقالات