وَقْفَةٌ بَلَاغِيَّةٌ مَعَ آيَةٍ قُرْآنِيَّةٍ، د. محمد كميل   
سبتمبر 11, 2023
للمشاركة :

     فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ”، مَا السِّرُّ الْبَلَاغِيُّ الَّذِي يَضْطَلِعُ بِهِ جَرُّ كَلِمَةِ (حَيٍّ) نَعْتًا لِكَلِمَةِ (شَيْءٍ)، دُونَ نَصْبِهَا (حَيًّا) مَفْعُولًا ثَانِيًا لِلْفِعْلِ (جَعَلْنَا)؟

     بَادِئَ بَدْءٍ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفِعْلَ (جَعَلَ) يَحْمِلُ مَعَانِيَ مُتَعَدِّدَةً؛ وَفْقَ السِّيَاقِ الْكَلَامِيِّ الَّذِي يَرِدُ فِيهِ، وَمَا يَعْنِينَا، هُنَا، مَعْنَيَانِ مُهِمَّانِ مَشْهُورَان، فَقَدْ يَعْنِي الْخَلْقَ وَالْإِيجَادَ، وَقَدْ يَعْنِي الصَّيْرُورَةَ وَالتَّحَوُّلَ وَالتَّبْدِيلَ. فَمِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: “وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ”، أَيْ: خَلَقَهَا وَأَوْجَدَهَا، وَمْنْهُ أَيْضًا، قَوْلُهُ تَعَالَى: “وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ”، أَيْ: خَلَقَهَا وَأَوْجَدَهَا. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى، مَعْنَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ يَنْصِبُ الْفِعْلُ مَفْعُولًا وَاحِدًا، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ.

     وَمِنْ مَعْنَى التَّحْوِيلِ والصَّيْرُورَةِ وَالتَّبْدِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: “وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُم عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً”، أَيْ: وَصَفُوهُمْ بِذَلِكَ، فَفِي وَصْفِهِمْ تَحْوِيلٌ لِلْمَلَائِكَةِ مِنَ الذُّكُورَةِ لِلْأُنُوثَةِ، وَكَقَوْلِنَا: جَعَلْتُ الْحَدِيدَ بَابًا، أَيْ: صَيَّرْتُهُ، وَحَوَّلْتُهُ. وَالْفِعْلُ، مَعَ هَذَا الْمَعْنَى، يَنْصِبُ مَفْعُولَيْنِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.

     عَوْدَةً لِلْآيَةِ الْمَقْصُودَةِ “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ”، فَلَوْ نَصَبَ كَلِمَةَ (حَيًّا)؛ لَكَانَتْ مَفْعُولًا بِهِ ثَانِيًا لِلْفِعْلِ (جَعَلَ)، وَلَكَانَ، حِينَهَا، بِمَعْنَى التَّحْوِيلِ والصَّيْرُورَةِ وَالتَّبْدِيلِ، وَلَاقْتَضَى ذَلِكَ وَاسْتَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا يُوضَعُ فِي الْمَاءِ أَنْ يَبْقَى حَيًّا، وَهَذَا مُنَافٍ لِلوَاقِعِ وَلَا يَسْتَقِيمُ مَعَ مَاهِيَّةِ الْكَوْنِ، فَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، حِينَهَا، أَنْ نَضَعَ أَيَّ إِنْسَانٍ، أَوْ أَيَّ مَخْلُوقٍ فِي الْمَاءِ مَعَ بَقَائِهِ حَيًّا.

     أمَّا جَرُّ (حَيٍّ) نَعْتًا لِشَيْءٍ، كَمَا جَاءَتْ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَمَعَهُ يَكُونُ الْفِعْلُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، أَيْ: خَلَقْنَا، وَأَوْجَدْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ فِيهِ حَيَاةٌ، وَهَذَا يَنْسَجِمُ مَعَ الْطَّبِيعَةِ تَمَامًا؛ لِأَنَّ كُلَّ حَيٍّ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْوِيَ الْمَاءَ فِي جَسَدِهِ.

     وَزِيَادَةً فِي الرُّقِيِّ الرَّبَّانِيِّ فِي الْآيَةِ، فَمَعَ مَعْنَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ؛ يَكُونُ حَرْفُ الْجَرِّ (مِن) دَالًّا عَلَى بَيَانِ الْأَصْلِ، فَكُلُّ حَيٍّ فِي أَصْلِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: “خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّار”، أَيْ: أَصْلُهُ الصَّلْصَالُ.

     أَمَّا مَعَ مَعْنَى النَّصْبِ الْمُفْتَرَضِ لُغَةً وَعَقْلًا، وَلَمْ يَقْصِدْهُ تَعَالَى؛ مَعَهُ يَكُونُ حَرْفُ الْجَرِّ (مِن) دَالًّا عَلَى السَّبَبِيَّة، كَقَوْلِنَا: شُفِيتُ مِنَ الدَّوَاءِ، أَيْ: بِسَبَبِهِ، فَكَأَنَّهُ بِسَبَبِ الْمَاءِ، وَبِدَاخِلِهِ يَظَلُّ كُلُّ شَيْءٍ حَيًّا، وَهَذَا يَتَنَافَى مَرَّةً أُخْرَى مَعَ نَوَامِيسِ الطَّبِيعَةِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ.

     لِذَا؛ أَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ يَحْوِي كُنُوزًا لُغَوِيَّةً، وَبَلَاغِيَّةً، وَتَرْبَوِيَّةً، وَإِعْجَازِيَّةً جَمَّةً، وَكُلَّمَا نَقَّبَ أَحَدُنَا فِيهِ وَجَدَ كَنْزًا جَدِيدًا لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، وَهَذَا مَا جَعَلَ الْوَلِيدَ ابْنَ الْمُغِيرَةَ يَشْهَدُ لَهُ، وَهُوَ مُشْرِكٌ بِقَوْلِهِ الْمَشْهُورِ: “وَاللهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ”.

تصنيفات :