القدس هي البوصلة، د.وائل حشاش
نوفمبر 23, 2023
للمشاركة :

القدس هي البوصلة

د. وائل حشاش

كانت وما زالت وستبقى، فمنذ فجر التاريخ وبدء البشرية كانت صنو المسجد الحرام من حيث المكانة والطهارة والقداسة؛ إذ لما سئل النبي: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قالَ: المَسْجِدُ الحَرامُ. قُلتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ المَسْجِدُ الأقْصى. قُلتُ: كَمْ كانَ بيْنَهُما؟ قالَ: أَرْبَعُونَ (أخرجه البخاري ومسلم)، ثم تعاقب عليها الأنبياء والمرسلون فكانت على مر التاريخ مهدًا للرسالات ومهوى قلوب الأنبياء تقديسًا وتعظيمًا ومكانة وملجًأ ونجاة، فقد سطر الله في قرآنه أنها كانت ملجأ سيدنا إبراهيم عليه السلام ونجاته مصداقً لقوله تعالى: “وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ” [الأنبياء:71]، وتتوالى الأحداث بعد ذلك لتكون أرض النبوات التي تنشر النور والهداية لأرجاء الدنيا وأطرافها كافة، فهناك كم الهائل من الأنبياء الذين انطلقت رسالتهم المباركة من هذه الأرض المقدسة، ويكفيها فخرًا أن ثلاثة من سادة الأنبياء وأولي العزم من الرسل كانوا في ذروة دعوتهم في بيت المقدس وهم أبو الأنبياء إبراهيم، وكلمة الله المسيح عيسى، والمبايعة الكبرى لمحمد – عليه الصلاة والسلام -، حتى إن أعظم أمنيات قاهر فرعون ومذل جبروته موسى عليه السلام كانت دخول هذه الأرض لولا خور وجبن أتباعه في ذلك الوقت، وأوصى أن يدفن على رمية حجر منها، ومع ظهور الرسالة الخاتمة وبعثة سيدنا وقائدنا وقدوتنا محمد – عليه الصلاة والسلام – في مكة المكرمة، إلا أن مكانة القدس لم يتم إغفالها منذ بدء الدعوة، فقد كانت قبلة الرسول – عليه الصلاة والسلام – والمسلمين الأولى لمدة أربع عشرة سنة وستة أشهر، أي ما يعادل 63% من عمر البعثة، وعندما اشتد الأذى والتآمر والتضييق على الدعوة الوليدة في مهدها كانت بارقة الأمل والرجاء والتسلية للنبي – عليه الصلاة والسلام -، ومحطة الشحن للانطلاق من جديد بيت المقدس عبر الرحلة المباركة، معجزة الإسراء والمعراج، فأحيا الله الأنبياء جميعًا في مشهد مهيب في بيت المقدس لتسليم اللواء للنبي الخاتم – عليه الصلاة والسلام -، ولم يحظ مكان في الأرض على هذا الشرف بهذا الجمع المبارك إلا القدس، وتزداد مكانة هذه البقعة المباركة بأن أصبحت جزءًا من عقيدة هذه الأمة، وآية تتلى في كتابه -عز وجل- إلى قيام الساعة مصداقًا لقوله:” سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1]، ويضاف إلى ذلك أن جعله الله -عز وجل- مقبرة لأعدائه ومحاربي دينه على مر التاريخ، ويكون حسم الأحداث الجسام والمعارك الكبرى على تربها الطهور، فكانت البداية بهزيمة دولة الطاغوت ممثلةً بالفرس “غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ” [الروم:2-3]، ثم هزيمة الرومان الصليبيين في حطين، ثم هزيمة المغول في عين جالوت، وسيتم تتويج ذلك بالهزيمة الكبرى لشذاذ الآفاق والطواغيت هذا الزمان الذين جيء بهم لفيفًا إلى حتفهم، رغم ما عاشته من فترة مظلمة خلال القرن الماضي إذ توالت عليها المؤامرات وحرف البوصلة لتغييب مكانتها والسعي لاحتلالها وتهويدها في ظلة غفلة من جموع كثيرة مشتتة من المسلمين الذين غرتهم الحياة الدنيا عبر التدجين المستمر من العصابة الخائنة من الحكام المجرمين الذين نصبهم الاستعمار، فباعوا أنفسهم للغرب والشيطان لتصبح الأمة غثاءً لا وزن ولا قيمة، فحرف هؤلاء الحكام البوصلة نحو قمع شعوبهم، ومحاربة من ينشد عزتهم وسؤددهم والنهوض بهم عبر سلسلة من الأذى والملاحقة والقتل والاعتقال لوأد صوت الحق، ثم تجيئ إرادة الله لتصنع الثلة المؤمنة الصالحة في بطن الحوت وداخل قصر فرعون هذا الزمان، فيخرج النور من عمق الظلمة، وينفجر الماء من قلب التنور، حتى إذا اشتد الزرع وأخرج شاطئه، وينع الثمر، انطلق بموج هادر ليشكل طوفان الأقصى ويحي الأمل من جديد، ويغري كل من في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو نخوة أو عزة أن ينضم للركب ويساهم في اقتلاع الباطل، ويؤكد من جديد أن القدس هي البوصلة وليس غيرها.

تصنيفات :