التربية الإيمانية وأثرها في مواجهة العدو
د. أيمن ناصر السلايمة
جامعة الخليل
إذا خالطت بَشَاشَةُ الإيمانِ القلوبَ، وتمكنت حلاوةُ الإيمانِ مِنَ الفؤادِ.. تَفَجَّرَت طاقاتُ النفسِ، وأُوقِظَت قواها، واندفعت الأبدان والأرواح لِفِعْلِ كُلِّ ما يُرضي سَيِّدَها، وبَذْلِ الغالي والنفيس في سبيل رَبِّها، مع تحمل الشدائد والصعاب لتحقيق رضا مولاها، ربها الذي أحبته وآمنت به.
وحينها تظهر المعجزات، في تحدي ما يُظَنُّ أنه أقوى منها، وتجاوز ما ظاهره أنه فوق طاقتها، وقد قال هرقل لأبي سفيان لما لقيه وسأله عن نبينا ﷺ ودعوته: (وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ. وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ. (البخاري: 7).
إن أول وصف ذكره ربنا جل جلاله في كتابه للمتقين هو إيمانهم بالغيب، قال سبحانه: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ثم أكمل وصفهم فقال سبحانه: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) }، ولا غرابة في ذلك؛ فَسِرُّ التقوى هو الإيمان بالغيب؛ فالإيمان بأن الله يراك ويسمع سِرَّكَ ونجواك، واستحضارك مراقبة الله عز وجل تدفعك إلى الاستقامة على أمره وترك نهيه، والإيمان بالجنة التي وُعِدَ المتقون من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، والإيمان بالنار التي أعدت للكافرين.. يجعلك تضحي بأغلى ما تملك من أجل رضا الله، والفوز بجنته والنجاة من النار. والنتيجة كما ختمت الآيات: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) نعم هم المفلحون الفائزون في الدنيا والآخرة.
إن التربية الإيمانية هي التي تؤثر في صنع القرارات التي تقود وتوجه المواقف الحياتية عندما يترتب على أداء الواجب احتمال التضحية بالروح والنفس والمال والمَلَذَّات، فترجيح كفَّة ما يحبه الله رغم أن فيه ما فيه من تضحية.. لا يكون إلا لمن آمن بوعد الله وعطائه وجزائه، وأما من امتلأ قلبه بحبِّ الدنيا وشهواتها أو شَكَّ في وعدِ الله وتربَّى في ميادين اللَّهو والعبث.. فسيكون من الصعب عليه أن يخسر لقمةً من أجل قضية، ومن الشاقِّ عليه جدًّا أن يقبل بتراجع مستوى رفاهيته قليلاً في سبيل عزة دينه وأمته؛ إن الإخلاد إلى الدنيا، والغفلة عن الآخرة.. لا يصنع رجالًا ولا جندًا.
والتربية الإيمانية لا تدعو صاحبها إلى الخير فحسب؛ بل تدعوه إلى المسارعة في الخيرات؛ قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}. فكيف ستكون هِمَّةُ مَن تربَّى على الإيمان عندما يواجه أعداء الرحمن.
فدون هذه التربية الإيمانية ستتثاقلُ الخطواتُ وتنجذبُ النفسُ إلى الحياة ومَلَذَّاتِها ولن تَقبل الخوضَ في مواجهةٍ قد يكون فيها فقد الحياة ومتعها أو ضرر أو نقص في بدن أو مال.
وهذه التربية الإيمانية أو التزكية بتعبير القرآن هي إحدى مهمات النبي ﷺ التي بعث بها، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } (الجمعة: 2). وقد قُدِّمت التزكية –وكذا تلاوة آيات الله- على التعليم؛ لأن القرآن والتزكية الإيمانية هي وقود النفس، وزاد الروح، بدونها تغدو المعلومات والأفكار جثة لا روح فيها ولا تأثير.
هذا بالإضافة إلى أثر التزكية والإيمان في الظّفَر بالولاية والرعاية الربانية، والنصرة والتوفيقات الإلهية، مع الطمأنينة والرضا والسكينة المعينة على التوفيق والنصر بإذن الله.
وقد قيل في مناسبة مجيء قوله تعالى { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } (الإسراء: 9) بعد ذِكْرِ عُلُوِّ بني إسرائيل في سورة الإسراء إنها إشارة وتنبيه للمؤمنين بأنهم لن يفلحوا في صراعهم مع الباطل ولن يمكنهم إزالة إفساده ما لم يحملوا راية القرآن، فإذا حملوا رايةً غير راية القرآن –كالعلمانية واليسارية والقومية والوطنية- أو لم يُرَبُّوا جُنْدَهُم على موائد القرآن والإيمان.. فلن يكونوا أهلًا لإزالة إفساد بني إسرائيل المذكور.
فليس غريبًا أن تكون أغلب قصار السور -وهي التي يتربى عليها أشبال المؤمنين، والناشئة الموحدين- مكية، ومعلوم ما تتميز به السور المكية من تركيز على محاور الإيمان بالغيب عمومًا، واليوم الآخر ومشاهده خصوصًا، وما فيها من تركيز على الإنفاق والبذل والعطاء، فيكون أول ما يتربى عليه أشبال المؤمنين: الإيمان واليقين بالله وسائر هذه المعاني الجليلة التي تستند إلى هذا الإيمان.
وهكذا رَبَّى نَبِيُّنا ﷺ أَبطالَ بدر وأحد والخندق، كما قالت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: (إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لاَ تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لاَ تَزْنُوا، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا) (البخاري: 4993)
والتربية الإيمانية هي التي تصنع في نفس صاحبها التأثُّرَ والانتفاع بآيات كتاب الله. قال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } (فصلت: 44). فكل ركن من أركان الإيمان، بل وكل مفردة من مفردات الإيمان بالغيب لها تأثيرها التربوي والسلوكي في صناعة الرجولة، وتكوين الفتوة، وتمكين صفات الشهامة والبطولة، وتعزيز عقيدة الثبات والفداء، تضيق السطور المتاحة هنا للتعبير عنها، بل ويعجز مثلي أن يصورها، فليس من ذاق كمن عرف.
اللهم انصر دينَك وكتابَك وسنةَ نبيِّك وجندَك الموحِّدين، والله المستعان.
تصنيفات : قضايا و مقالات