في رحاب البروج والأخدود
طارق مصطفى حميدة
(قُتل أصحاب الأخدود).. هذا هو جواب القسم.. يا سبحان الله!! القَتَلة بحكم الله هم المقتولون، فهم بأشخاصهم وجنودهم وظلمهم وسلطانهم ومبادئهم في حكم المقتولين البائدين، وليس المؤمنون الذين حُرِّقوا في الأخاديد. وهم، ما لم يتوبوا، صائرون إلى جهنم وعذاب الحريق.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير، فلا تقلق على ضحايا الأخدود، فهم قد فازوا ولم يخسروا، فازوا بثباتهم على المبدأ وإغاظة الطغاة وعدم تنازلهم عن الحق، وهم أحياء عند ربهم يرزقون.
وشتان شتان بين المؤمنين الذين صاروا إلى الجنات، وأصحاب الأخدود الذين ينتظرهم عذاب الحريق جزاء من جنس جريمتهم.
والقسم بالسماء ذات البروج يتضمن عدة إيحاءات منها أن البروج فيها العلو والزينة، ومكان الحفظ بسبب هذا العلو، ما يعني أولاً أن المبادئ التي لأجلها ارتقى الشهداء لن تنطفئ ولن ينتهي الإيمان، ومن هنا انتهت السورة بالتأكيد على حفظ الكتاب الكريم وأنه في العلياء (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ)، وثانياً كأن السورة تشبه الشهداء بأنهم بروج هادية لا جثث هامدة، نجوم ساطعة وأبطال عظام ونماذج باهرة.
ولعل في لفت الأنظار إلى السماء ذات البروج في جو الظلام البهيم، ما يرقى بأبصار المؤمنين إلى السماء لترى البروج الجميلة، فتزول عنها مشاعر الكآبة والحزن والانكسار، “ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين” [الحجر:16]، إن هذه البروج زينة وبهجة للنفوس، وسعادة للقلوب وشرح للصدور، كيما ينشطون من جديد لعمل الخير والقيام بأمر الدين.
(وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) السبب الوحيد لحرب الإبادة هذه هو إيمانهم بالله العزيز الحميد، فقد امتلأت قلوبهم عزة ولم ينحنوا لغيره ولم يتنازلوا عن حق ولا مبدأ، ويتعاملون بأنفة وندية مع الطغاة والمتجبرين، ولذلك يحرص الفراعنة على إزاحتهم من المشهد وإبادتهم حتى لا تنتقل عدواهم إلى غيرهم.
ثم إن وصف الله تعالى بأنه العزيز يعني أنه لن يترك المؤمنين به ولن يتخلى عنهم وسيكون لهم المنازل السامية العزيزة، بالنصر في الدنيا والجنان في الآخرة، فالعزيز لا يتخلى عن عباده ولا يترك أعداءه يعيثون فسادا.
وإيمانهم بالله الحميد الذي له الكمالات والأسماء الحسنى، يجعلهم في القمة أخلاقا وسلوكا وقيما وحكما، ويتميزون عن عبيد الدنيا وسلوكيات الطغاة وأتباعهم، ولذلك يحس المستكبرون بأنهم ينافسونهم إلى قلوب الناس، وأنهم مفضوحون أمام قيم المؤمنين، ولا يرون حلاً إلا بتكسير المرايا بدلا من مسح قذى عيونهم.
(والله على كل شيء شهيد) كلا فلم يغب عن علم ربنا سبحانه ما يفعله المجرمون بالمؤمنين والمستضعفين، فهو على كل شيء كل شيء شهيد. وكل ما يقع على المؤمنين من التحريق وأعمال الإبادة حصل بعلم الله تعالى، وحصل بإذنه، وحصل بحكمته ورحمته فلن يَضيع أولياؤه، ولن يَفلت أعداؤه.
يا الله!! ما أعجب هذا الدين!! لقد توعد القرآن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا بجهنم وبعذاب الحريق، بمعنى أنه سيكون من بين مرتكبي جرائم الإبادة زمن القصة وزمن الصحابة، وحتى الساعة من يتوب، ما أقوى هذا الدين الذي يعتنقه حتى ألد أعدائه بعدما يرون ثبات المؤمنين وحسن أدائهم وسمو أخلاقهم، وسنرى قريباً غير بعيد، وعاجلا ً غير آجل، في الغرب قبل الشرق، من تؤدي بهم الأحداث إلى الدخول في هذا الدين ونصرة قضيته، وهم يرون بطولات أبنائه وجرائم أعدائه.
ولعل حكمة التنويه بالمؤمنات، أولا: لأن النساء كن مع الرجال في التضحية والثبات على المبدأ، وثانيا لإظهار شدة جريمة أصحاب الأخدود باستقوائهم على النساء.
والنهاية المفتوحة في حديث أصحاب الأخدود، قول الصبي لأمه: ” اصبري فإنك على الحق”، تؤكد أنه لئن حرّق الطاغية غالبية المجتمع، فإن العقيدة قد ترسخت حتى لدى الصبية الأغرار وصاروا هم يُنظّرون ويحملون الراية التي لأجلها استشهد الكبار، ولا يفرحن الفراعنة والمستعمرون فإن الجيل الجديد حتى ولو لم يتوفر لهم من يحتضنهم ويثقفهم؛ فإن الأحداث الكبيرة وما عايشوه من تضحية الكبار قد غرس فيهم أسمى معاني الصبر والثبات على الإيمان والتمسك بالحقوق.
تصنيفات : قضايا و مقالات