الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إن قراءة القرآن الكريم قراءة حية، مع ربطها بالواقع وأحداثه، يجعل المسلم يستشعر لذة تدبر القرآن الكريم فيستخرج منه اللؤلؤ والمرجان، وفي تدبر آيات قصة مريم عليها السلام في سورتي آل عمران ومريم الكثير من هذه اللآلئ والجواهر، التي يمكن أن نزين بها جِيد طوفان الأقصى، وفي هذه الأسطر القليلة بعضها.
(وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ):
إنه المقياس البشري الظاهري الذي استعملته امرأة عمران عندما وضعت مريم، فإنها أرادت أن يكون وليدها خالصاً لله ، متفرغاً لعبادته، قائماً على خدمة بيت المقدس، وهذا لا يتأتى إلا إذا كان هذا الوليد ذكراً، ليكون فيه من القوة والجلَد في العبادة والخدمة والاستمرار في ذلك ما ليس في الأنثى، ولكنّ إرادة الله I وعلمه هو ما يحدد نوع هذا المولود، (وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ)، لأنه I اختار في علمه لهذا المولود الأنثى مهمة عظيمة لا تقاس بالمقاييس المادية الدنيوية، وذلك بأن تكون هي معجزة في حملها ووضعها لنبي معجزة هو عيسى.
واليوم قد يقول قائل إن المقاومة في غزة مهما عظمت لا يمكن أن تتساوى مع قوة دولة الاحتلال التي تتربع في المكانة العسكرية الرابعة عالمياً، ولا يمكن أن تحرر بيت المقدس بإمكانياتها المتواضعة من هذا العدو الذي يمتلك هذه الإمكانيات الهائلة، ولا أن تقف بإعدادها البسيط أمام ترسانة الاحتلال الباطشة، وكل هذه الأقوال إنما جاءت بسبب الغفلة أو التغافل عن إرادة الله I وعلمه في هذه الطائفة التي صنعت على عين الله، فقد جاء في الحديث المرفوع عن النبي: (لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك)، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: (ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)([1]).
(وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ).
إنها التهيئة للأمر العظيم، كرامة من الله U أن يأتي الرزق لمريم وهي في محرابها، لا تدري هي، ولا يدري أحد كيف كان يأتيها هذا الرزق، قال تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ)، فكانت هذه الكرامة إعداداً نفسياً لمريم لما سوف تستقبله من معجزة بحمل المسيح u وولادته من غير زوج، هذا الميلاد الذي سيغيّر مجرى التاريخ.
ورغم مشقة ما وقع لها وصعوبته من حملٍ بصورة غير اعتيادية، جعلها تتمنى لو ماتت ومحيت من ذاكرة الناس: (يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا )، إلا أن تلك التهيئة النفسية وذلك الإعداد الإلهي جعلها تحتمل الأمر، بل وتذهب إلى قومها رغم معرفتها بما سوف تواجهه، ولكنها الواثقة بأمر الله U المطمئنة لقضائه.
وغزة وهي تعاني منذ أكثر من سبعة عشر عاماً من الحصار الظالم، والعديد من الحروب المتتالية التي تحرق الأفئدة وتدمي القلوب، كلما خرجت من حرب دخلت في أخرى، إلا أن هذا الحصار وهذه الحروب كانت قدراً ولطفاً من الله I، وتهيئة وإعداداً لها لتحمّل آثار هذا العبور العظيم، وهذا الفتح المبهر (طوفان الأقصى)، الذي سيغير وجه التاريخ ويقلب مجرى الأحداث في الأرض، فكان الحصار تهيئة لها على تحمّل قطع الماء والغذاء والدواء والكهرباء، وكانت الحروب السالفة وما فيها من شهداء وأشلاء ودماء ودمار إعداداً لها للصمود في هذه المعركة الكبرى، ورغم صعوبة هذه الحرب التي تجاوز فيها الاحتلال كل حدود الإنسانية من قتل وتشريد وقصف للبيوت على رؤوس ساكنيها، وتدمير لكل جوانب الحياة، إلا أن ذلك التمهيد الإلهي والإعداد الرباني، جعل غزة بأناسها ومقاومتها، تقف صامدة ثابتة واثقة بنصر الله، مطمئنة لأمره وقضائه.
(وَهُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ).
وماذا تفعل امرأة حامل، قد أتتها آلام المخاض في نخلة؟ إنها لا تستطيع أن تحرك نفسها فكيف تحرك نخلة؟ ولكنها السنّة الربانية للأخذ بالأسباب، التي أمِرت مريم بالأخذ بها ففعلت، أما النتائج فهي تدبير إلهي ينتظر المؤمن أن تتساقط عليه رطبه كما وقع لمريم، وهذا التساقط مجاز لأنه يتنزل على المؤمنين من إرادة الله I العلية، وإلا فإن التدبير الرباني قد يتنزل من السماء، وقد يخرج من الأرض، (وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ).
وغزة المحاصرة المضيّق عليها هزت نخلة الرجاء، وأخذت بأسباب الإعداد ما استطاعت، فتساقطت عليها حشوات عبواتها من أعماق البحر في سفينة حربية غرقت على شواطئها قبل مائة سنة في الحرب العالمية الأولى، وأغلفتُها من أنابيب المحررات التي تركها المحتل وراءه عندما جرّ أذيال خيبته عام 2006 م، وجاءها المدد الإلهي من أنفاق البرّ ولُجج البحر، وبارك الله I في عقول أبنائها وأيديهم، فقرّت عيونهم بعطاء الله I، واطمأنت نفوسهم بمعيته وتوفيقه، وصارت مستعدة لتحمل آلام المخاض في انتظار ميلاد فجر (طوفان الأقصى).
(فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا).
عندما يصعب التصريح بالحقيقة، لصعوبة تصديقها، أو حرصاً على إخفائها، ويُنسى طهر الباطن ونصاعة الظاهر، ولا تستحضر التربية الصالحة لدرء التهمة بل لمزيد تقريع، (يَٰٓأُخۡتَ هَٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٖ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيّٗا)، فتكال الاتهامات جزافاً، وتلوك الألسنة الأعراض، فحينها يكون الصمت أبلغ دفاع عن النفس حتى تكشف الحقيقة عن ذاتها، وهذا ما فعلته مريم عندما عجز لسانها عن الدفاع عما أتت تحمله، لأنّ من بانتظارها يتعلقون بالآني الظاهر، ويغفلون أو يتغافلون عن الماضي النقي الطاهر، ويتنكرون للتربية الصالحة، فدافعت عن نفسها بصمتها (فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِۖ)، ولكنّ القلوب الغافلة المريضة لا تريد أن تذعن للحق، ولا أن تصبر حتى تنكشف الحقيقة (كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا)، وسرعان ما تظهر الحقيقة ناصعة على لسان عيسى : (إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا)، فخرست الألسن التي تطاولت على العرض الطاهر، وانبهرت الجموع بالمعجزة الناطقة.
ومثل مريم كان القسام في غزة، يخفي حمله المبارك من إعداد وتخطيط، ولكنه يغايرها في أنه لا يريد أن يكشف حمله أمام الجموع حتى تحين اللحظة المباركة، لذلك فإنه صار يتهم بالركون إلى الدنيا، والبحث عن المناصب والأموال، ويُنسى ماضيه الطاهر النقي، ويتم تجاهل تربية الأب المؤسس، ومبادئ الحركة الأم، ويعرَّض فيه بخذلان الأخ في معاركه الجانبية، ولكنّ الرد كان يعني إسقاط الإعداد، وإجهاض التخطيط، فكان الصمت أصوب (فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا)، حتى تأتي الإشارة، فتنكشف الحقيقة هادرة قوية تزيل الغشاوة عن عيون الغافلين، دامغة لباطل المغرضين، وتنطق المعجزة الصارخة بذلك العبور العظيم في السابع من تشرين، مؤذناً بميلاد جديد لأمة سكتت على العقم طويلاً.
([1]) رواه أحمد والطبراني، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد عنه: رجاله ثقات، وضعفها الألباني في السلسلة الصحيحة. والحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ مختلفة دون الزيادة من: “يا رسول الله وأين هم ..” إلى آخر الحديث.
تصنيفات : قضايا و مقالات