إن الله U خلق الخلق ولم يتركهم هملاً، وإنما أرسل إليهم الأنبياء والمرسلين، {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، ولمَّا كان العرب على فترة من الرسل أذن الله في بعثة رسول الإسلام محمد e، وبدأت الدعوة الإسلامية، في مكة المكرمة، ثم المدينة المنورة في ثلاث وعشرين سنة، تحول العرب فيها من أمم متناحرة يعيشون وسط الصحراء إلى سادة الأمم وحكام الدنيا، وما كان ذلك بعد توفيق الله U إلا بتربية النبي e وإعداده لصحابته الكرام، ومن فضل الله على الناس أنه جعل الأنبياء والمرسلين بشرا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق؛ حتى يسهل الاقتداء بهم، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، لذلك وجب علينا دراسة السيرة النبوية بعين فاحصة، ونفس متشوفة لأحداثها، بنيِّة الاقتداء في مسيرة إصلاح النفس والمجتمع.
والمتتبع لسيرة النبي e، يوقن أن النبي e سار على منهج قويم حكيم في إعداد أصحابه رضي الله عنهم، ولا يمكن الإحاطة بهذا المنهج في مقال ولا حتى في كتاب متعدد الأبواب والفصول، ولكني سأسطر بإذن الله في هذا المقال بعض المحاور المركزية الظاهرة في طريقة إعداد النبي e لصحابته الكرام في الفترة المكيّة، ومن أهم هذه المحاور:
أولا: شمولية الدعوة وحسن الاختيار؛ فقد شملت دعوة الحبيب محمد e الرجال والنساء والأطفال، ومن حكمة النبي e أنه اختار أقرب الناس إليه حتى يبلغهم دعوة الإسلام، فكان أول من آمن به على الاطلاق أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، فلم يخيِّب الله رجاءه فيها، فكانت خير ناصر ومعين له على مدى عشر سنوات من الدعوة إلى الله U، كما عرض الرسالة على صديقه المقرب أبي بكر الصديق t، فاستجاب لدعوة الإسلام فور دعوة النبي e له، وتحمَّل أعباء الرسالة في حياة النبي e وبعد موته، ولم يزهد النبي e في دعوة الصبيان ولا حتى الموالي رغم عظم الرسالة وصعوبة الموقف، فكان أول من آمن من الصبيان سيدنا علي t وهو في العاشرة من عمره، ومن الموالي زيد بن حارثة t، وهكذا سار النبي e في دعوته يدعو أقرب الناس إليه ومن يرجو منهم رجاحة العقل وسلامة القلب، ثم توسع بدعوته وجهر بها بعد أن اشتد عود الإسلام وأذن الله بالجهر بالرسالة.
وهذا يعلمنا حسن تقدير الموقف دائما قبل الإقدام، وألَّا نحتقر من المعروف شيئا، وأن نحرص على تبليغ رسالة الإسلام، للصغير والكبير والرجل والمرأة، فرب مبلَّغ أوعى من سامع.
ثانيا: ترسيخ الإيمان في القلوب؛ لقد مثلت الفترة المكية ومدتها ثلاث عشرة سنة، فترة الإعداد الإيماني لصحابة رسول الله e، والناظر في السور المكية التي نزلت على النبي e قبل الهجرة، يجد أن هذه السور ركزت على ترسيخ العقيدة والإيمان في قلوب المؤمنين، وتذكيرهم بقصص الأنبياء والأقوام السابقين، وما فيها من تسلية وتثبيت لقلب النبي e وصحابته الكرام، وتربية الصحابة على البذل والعطاء والاتباع والصبر على المصائب وعدم التضجر لصعوبة الدعوة، وكثرة الأعداء، ويظهر ذلك جليا في موقف عجيب حينما جاء صحابة رسول الله e يطلبون منه أن يدعو الله لهم لشدة الأذى وتنكيل الكافرين بهم، فغضب النبي e واحمَّر وجهه، وأخبرهم بحال الأقوام السابقة، وما عانوه في سبيل الدعوة من عذاب؛ تمثل في تمشيط أجسادهم بمشاط من حديد، وشق للأجساد بالمنشار، ولم يصدهم ذلك عن الإيمان شيئا، ثم بشرهم بأن دعوة الإسلام غالبة، بقوله: “وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ“، [صحيح البخاري (4/ 201)].
ثالثا: الموازنة بين الأخذ بالأسباب المادية والأسباب المعنوية؛ وهذا الأمر ظاهر في جميع مراحل السيرة النبوية، ونضرب عليه مثالا في أحداث الهجرة النبوية، فلما أراد النبي e الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة كان من المفترض أن يتجه شمالا، لكن النبي e سار جنوبا، وتخفَّى في الغار مدة ثلاثة أيام، واتخذ من يخفي عنهم الآثار ومن يأتيهم بالأخبار، ولم يقل إنه نبي مؤيد بالوحي والرسالة ويترك الأخذ بالأسباب، ومع ذلك فقد وصل المشركون إلى باب الغار حتى قال أبو بكر الصديقt: “لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: “مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا“، [صحيح البخاري (5/ 4)].
فالمسلم مطالب بالأخذ بالأسباب المادية، وكأنها كل شي، والتوكل على الله U، وكأنها ليست بشيء، وهذا المفهوم أصل من أصول دعوة النبي e وجهاده، تمثله في مراحل بناء الدولة، وإعداد الجيوش وخوض الحروب والتخطيط لها، ولأن حرص النبي e على الأخذ بالأسباب المادية وهو نبي مؤيد بالوحي والرسالة، فمن باب أولى لأمته أن تأخذ بهذه الأسباب، فتجمع بين الأسباب المادية والمعنوية معا.
أخيرا: تربية الصحابة على الفأل الحسن، كان الرسول المصطفى e يُعجبه الفأل الحسن، وقد سار على الفأل الحسن في أصعب الظروف وأحلك الأوقات، فقال لسراقة بن مالك لما تبعه وهو في طريق الهجرة، ارجع ولك سواري كسرى، وكَانَ رَسُولُ الله ِe: “إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ، قَالَ: “بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا” [صحيح مسلم (3/ 1358)]، والفأل الحسن ليس حكرا على النبوة بل هو درب القادة المصلحين في كل زمان ومكان.
هذه إضاءة يسيرة على نهج النبي المصطفى e في الإعداد في الفترة المكية، وهي لازمة لنا في إضاءة الغربة الثانية التي أخبر عنها النبي e: ” بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ” [صحيح مسلم (1/ 130)]، فلا بد لغرباء هذا الزمن من النظر في سيرة النبي e وجهاده حتى نستخلص منها الدروس والعبر، فلن تصلح هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها من لزوم القرآن والسنة وسيرة النبي e، ودراسة سير القادة المصلحين والعلماء المجددين، فمن لم يعِ ماضيه فلا حاضر له ولا مستقبل.
تصنيفات : قضايا و مقالات