من أهم مقاصد القرآن الكريم إطلاق طاقات الإنسان العقلية والفكرية، فالقرآن خطاب للعقل، يستثيره ويحاوره، ويرسم مناهج النظر، ويصوب مسارات التفكير.
ومن أهم الأصول التي بنى القرآن عليها خطابه أنه صرف الفكر عن البحث في عالم الميتافيزيقا، وحضّ التأمل في مجالات ثلاث: الأول الآفاق، والثاني النفس البشرية، والثالث التاريخ الإنساني.
والنظر في التاريخ يقوم على أنّه محكوم بسنن، وأنّ الأحداث فيه لا تكون اعتباطا، وأنّ المقدمات تستلزم النتائج، وسنن الله سبحانه لا تحابي أحد، فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا. واللافت أنّ القرآن كما فصّل في الحديث عن أسباب النصر في حديثه عن بدر، فقد عالج أيضا ما ينبغي أن يكون عليه الوعي الإسلامي في مواجهة لحظات الضعف، وجاء ذلك مفصلا في حديثه عن أحد، وكان ممّا جاء في الآيات الكريمة من سورة آل عمران قوله تعالى: ﵟأَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞﵞ [آل عمران: 165].
وهذا يقتضي تحولا كبيرا في فهم طبيعة الصراع بين المؤمنين وقوى الظلم في العالم، فالذين يقاتلون بمزاج ملحمي، لمجرد تسطير صفحات التضحية والفداء، لا يستطيعون تحويل مسار التاريخ، لتكون الأمة صاحبة مشروع، قادرة على مراكمة منجزاتها للوصول إلى أهدافها.
وفي هذا الإطار للفهم يختلف مفهوم الإعداد للمعركة، فالإعداد لا يقتصر على الجوانب العسكرية، فقوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) يشمل القوة بمعناها الشامل، ومن أهم لوازمها الإدراك العميق للمرحلة، والفهم النافذ للمجتمعات في العالم، والقدرة على صياغة خطاب بمستوى العصر، يمهد للنصر الحضاري الشامل.
وهذا يقتضي انتقالا شاملا في الوعي الإسلامي، يشمل جوانب كثيرة منها: الانتقال من العاطفة الجياشة إلى عاطفة يحكمها ويوجهها الوعي، والانتقال من الإيمان بالنبوءات عن انتصار الإسلام إلى رسم الاستراتيجيات لتحقيق ذلك، والانتقال من احتقار ثقافة الأمم إلى فهمها، والتحول من المنتظر للتدخل السافر لقدرة الله في قلب الموازين، إلى الفهم العميق لسنن الله في المجتمعات.
ومن أهم جوانب الإعداد المأمور به وحدة الصف الإسلامي، والانتقال من الصراعات حول المسائل التي عانت الأمة من الخلاف حولها في القرون الماضية، ولا زالت تمزقها، إلى مواجهة التحديات الخطيرة على المستوى الحضاري والثقافي التي تعصف بنا.
ووحدة الصف من أهم ما تقتضيه القفز عن الانتماءات الصغيرة إلى الأخوة الإسلامية الشاملة، وتقديم المتفق عليه على المختلف فيه، وأن ننتقل من الهجوم والاحتقار والإقصاء للمخالف، إلى الحوار الذي يتفهم خلفيات وأسس كل مدرسة وكل مذهب. ويستلزم ذلك أيضا التمييز بين التناقضات الثانوية والتناقضات الرئيسة، وعدم تغليب الأولى على الثانية.
وهذا يؤسس لخطاب نقدي يملك الجرأة للوقوف على جوانب القصور من أجل تجاوزها، ويتحرر من السعي الدائم لتبرير كل ما يصدر عمن نحبهم ونحترم جهودهم وإنجازاتهم وتضحياتهم. ويمكننا من أن نتغير، فالمحصنون ضد التغير هم محصنون بالضرورة ضد التحسن.
فانتصار الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم يكن مجرد انتصار على جيوش أعدائهم، بل كان فتحا حضاريا، استطاعت الأمة فيه أن تستوعب الشعوب المفتوحة، بما تملك من روح العدالة وسمو المعاملة، وهو ما جعل المدن المفتوحة مراكز إشعاع للحضارة الإسلامية.
وعندما تسير الأمة على هديهم فإن عين الله ورعايته ستتولاهم بلا شك، وسيرون تأييده، وسيظلهم نصره، فالله كتب على نفسه أن ينصر أولياءه، ولن نكون أولياءه إلا بفهم سننه، والأخذ بكل أسباب النصر في مساحات المعركة بمضامينها الفكرية والحضارية والاجتماعية والسياسية فضلا عن العسكرية.
تصنيفات : قضايا و مقالات