وقفه مع آية، د. يسري عيدة
فبراير 17, 2024
للمشاركة :

وقفة موجزة مع قول الله تعالى: {مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. [سورة البقرة: آية 245].

د. يسري محمد عيدة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد؛

فقد رغب الشّرعُ الحنيف بالإنفاق في وجوه الخير كلها، وقد جاءت العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة بألفاظ وصيغ عدة كلها تحت إطار الإنفاق في سبيل الله والتصدق وبذل الخير، وبيان الأجور العظيمة المتربة على هذا الإنفاق، وموضوعنا في هذا الإطار: وقفة مع قول الله تعالى: {مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. [سورة البقرة: آية 245].

 الوقفة الأولى: ملخص مضمون الآية.

 في هذه الآية الكريمة يحثُّ الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين على الإنفاق في سبيله جلّ وعلا بأسلوب شيّق وجميل، يبتدأ فيه بالاستفهام الاستنكاري عمّن يفعل ذلك، وجاء هذا الأمر بلفظ القرض الذي يدلّ على إعطاء الناس شيئاً من المال، على أن يردّوه في وقت لاحق معلوم، وأَصْلُ الْقَرْضِ في اللُّغة: الْقَطع، سُمِّي به الْقَرْضُ؛ لأَنَّهُ يَقطعُ من ماله شيْئًا يُعْطيه ليرْجعَ إليه مثلُه، وهنا شبّه الله تبارك وتعالى الصدقة والبذلَ والإنفاقَ في سبيله بالقرض؛ لأن الذي يأخذُ القرضَ سيردُّ المالَ الذي اقترضه لصاحبه ولو بعد حين، فَسمَّى اللَّهُ تعالى عملَ المؤمنينَ له على رجاء ما أعدّ لهم من الثواب قَرْضًا، لأَنَّهمْ يعملونهُ لطلبِ ثوابهِ.

وكذلك، فإنَّ الله تعالى يَرُدُّ للمتصدّق أجرَ وثوابَ صدقته في الآخرة، ولكن ليس كما هو، وإنما يردّه أضعافاً مضاعفة ويزيد في أجره وثوابه، ومقدار هذه الزيادة ذكرها الله تعالى في آية أخرى من سورة البقرة، فقال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. [سورة البقرة: آية 261].

هذا، وإنّ الله سبحانه وتعالى يُمسك الرِّزق على مَنْ يشاء، ويوسِّع على من يشاء، وإليه يرجع الناس كلهم، فمن أنفق وتصدق في سبيل الله، فإن الله يجازيه على صنيعه ذلك بالجميل والكثير في الدنيا والآخرة، وما سيكون في الآخرة خير وأبقى وأكثر.


الوقفة الثانية: الجانب البلاغي في الآية.

* قول الله تعالى: { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ } معناه: أنَّ هذا القرض من باب التطوع والترغيب وليس من باب الوجوب والإلزام، فالقرض – كما هو معلوم – هو إعطاء مالٍ مقابل استرداده بعد أجل، ومن طلب قرضاً من آخر فالأمر غير ملزم له، إن شاء أقرضه وإن شاء لم يقرضه، فالأمر ليس على سبيل الإلزام، هذا فيما بين الخلق، مع ما يكون فيه من توثيقات وتعهدات وآجال، أما مع الله سبحانه وتعالى، فلا تجد القرض في القرآن إلا لله سبحانه وتعالى، وإن الله تكفل بذاته العلية لمن يبذل ذلك القرض بأن يرده مضاعفاً، كما قال سبحانه: { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}، وقد يكون ذلك في الدنيا والآخرة على حد سواء، وأن هذا الوعد والعهد الإلهي لا يتخلف في حقه حاشاه تبارك وتعالى، بخلاف البشر وما يعايشه الناس من إخلاف ومماطلة وجحود وإنكار.  

* كل ما جاء في القرآن عند الحديث عن القرض، جاء وصفه بالحسَن، قال الله تعالى: {يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}، وهو أن يكون حلالاً خالصاً من الرياء والمنّ والأذى، وأن يكون عن طيب نفس وسخاء، وأن يكون لأفضل الجهات التي فيها نفع عام للمسلمين.

*  في هذه الآية قال الله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}، وجاء في آية أخرى المضاعفة مع الأجر الكريم: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}. [سورة الحديد: آية]. ففي الآية الأولى ذكر الله تعالى الكمّ ولم يذكر الكيف {أَضْعَافًا كَثِيرَةً}، وفي الآية الثانية ذكر الكمّ {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}، وذكر الكيف {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}، والكريم الحسن البالغ الجودة.

* قول الله تعالى: { وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ}، فيه دلالة واضحة على أنّ قبض الرزق وبسطه بيد الله سبحانه وتعالى، وفيه تهديد بالقبض كذلك في حق من يمسك ولا يًقرض، وترغيب وتشجيع لمن يُقرض، {والله يقبض} أَيْ: يُمسك الرِّزق على مَنْ يشاء {ويبسط} أي: ويوسِّع على من يشاء، وقد يتعرض صاحب المال لقبض وتضييق في الرزق فيضن بالمال، فيأتي الترغيب من المولى سبحانه والتطمين للمقرض { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}، بمعنى: أنفِق يا ابن آدم حتى لا يصيبك القبض وحتى يأتيك البسط والعوض أضعافاً كثيرة مضاعفة.   

* قول الله تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيه إشارة بأن المرجع إلى الله أيها المقرض، ومن ثم ستلقى جزاء ذلك القرض أضعافاً كثيرة يوم القيامة، وما عند الله خير وأبقى.  

الوقفة الثالثة: من صور التطبيق العملي للآية. 

 ما إن نزلت تلك الآيات العظيمة التي تحثّ على الصدقة، فإذا بالصّحابة الكرام رضي الله عنهم يسارعون ويتسابقون ويتنافسون بتطبيقها والرغبة في عظيم أجر الصدقة والإنفاق في سبيل الله، وخير مثال على ذلك: ما حصل مع الصحابي أبي الدحداح رضي الله عنه، فعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إنَّ لفلان نخلة، وأنا أقيم حائطي بها، فَأْمُره أنْ يعطيني حتى أقيمَ حائطي بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ” أعطها إياه بنخلة في الجنة”. فأبى! فأتاه أبو الدحداح، فقال: بِعني نخلتَكَ بحائِطِي. ففعَل، فأتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنِّي قد ابتعْتُ النخلةَ بحائطي، قال: فاجعلها له. فقد أعطيتكَها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم مِن عِذقٍ رَدَاح لأبي الدحداح في الجنة. قالها مراراً. قال: فأتى امرأتَه فقال: يا أم الدحداح، اخرجي من الحائط، فإنِّي قد بِعْتُه بنخلة في الجنة. فقالت: رَبِح البيع. أو كلمةً تشبهها. [مسند الإمام أحمد 19 / 464 رقم 12482، المستدرك على الصحيحين للحاكم 2 / 20 وقال: صحيح على شرط مسلم، وصححه الذهبي. المعجم الكبير للطبراني 22 / 300 رقم 763. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 6 / 1131 رقم 2964].

  الوقفة الرابعة: أهم شروط القرض الحسن.

 حتى يكون القرض الحسن مقبولاً عند الله تبارك وتعالى، لا بدّ أن يتوفر فيه الشروط الآتية: 

 * أن يكون المالُ المُنفَقُ مِن كسب حلالٍ طيّب، فإن الله سبحانه وتعالى طيّبٌ، ولا يقبل إلا طيّباً.

 * أن يبتغي مَن أراد الإنفاق في سبيل الله وجهَ الله تعالى وحده، فيخلص النية لله جلَّ وعلا، فلا ينوي بإنفاقه مدحاً أو حمداً أو شكوراً أو شهرة وسمعة ورياءً.

 * يجب ألا يتبع هذا الإنفاق أيَّ مَنٍّ على الفقير أو المسكين أو المحتاج عموماً، ولا أذىً، فلا يرافق ذلك الإنفاق فضيحة للفقير أو تشهيراً به ونحو ذلك من صور الأذى.   

*  أن يحرص صاحب القرض الحسن على إخفاء ذلك عن الناس ما استطاع.

* مراعاة الظروف والأحوال والأولويات في الإنفاق.

والحمد لله رب العالمين

تصنيفات :