تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في آيات القرآن الكريم.. فوائد ودلالات
د. منذر زيود
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيِّدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد؛
فقد شرع الله عز وجل جهادَ الأعداء وقتالَهم في كتابه العزيز حيثُ قال سبحانه وتعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ۚ وَإِنَّ الله عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِير)، وأكَّد ربُّنا تعالى على فرضية الجهاد في سبيله حين أمرَ رسولَه صلى الله عليه وسلم بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير)، وقد جعله الرسول صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام لما قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (رَأسُ الأَمرِ الإِسلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِروَةُ سَنَامِهِ الجِهَاد) حتى عَدَّه بعض السلف ركنا سادسا من أركان الإسلام.
وتتضح أهمية الجهاد في سبيل الله إذا عرفنا أن الحديث عن الجهاد قد استغرق نصيبا وافرا من كتاب الله عز وجل فقد استعمل القرآن الكريم لفظ (الجهاد)، وتعظيم المجاهدين، وذمَّ المتخلفين والقاعدين في ثلاثة وثلاثين (33) موضعا، وذكر الأمر بالجهاد في ثمانية وثلاثين (38) موضعا؛ بل إن واحدة من سور القرآن الكريم سُمِّيَت بسورة (القتال) فضلا على عشرات الآيات الأخرى المبثوثة في ثنايا السور القرآنية، التي جاءت تتضمن الحديث عن فضيلة الجهاد في سبيل الله وأهميته، ثمَّ إنَّ أهمية الجهاد تتجلى في جملة كبيرة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم القولية، وسُنَّته العملية التطبيقيَّة من خلال حرصه صلى الله عليه وسلم على المشاركة المباشرة في القتال حيث قاد الرسول صلى الله عليه وسلم سبعا وعشرين غزوة بنفسه.
وما كان الجهاد في سبيل الله ليحظى بهذه المنزلة، وهذه المكانة لولا أنه يحمل رسالة سامية، وحكمة بالغة تهدف بشكل مباشر إلى الدفاع عن حرمات الآمنين في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وإلى تأمين الحياة الكريمة لهم، وإنقاذ المضطهدين والمظلومين والمستضعفين من سطوة المستكبرين والعابثين، وتحرير البلاد والأوطان من قوى الضلال والطغيان.
ولا شكَّ أنَّ الجهاد في سبيل الله تتعدد صوره وألوانه؛ فقد يكون الجهادُ جهادًا بالنفس أو جهادًا بالمال أو جهادًا باللسان، لكنَّ المتتبع للآيات القرآنية العشرة التي تضمَّنت الحديث عن الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال يجد واحدة منها فقط تَقدَّم فيها ذكر الجهاد بالنفس على الجهاد بالمال، وهي قوله تعالى من سورة التوبة: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم)، ذلك أن الجهاد بالنفس هو صفقة رابحة بين المجاهد وبين الله عز وجل فقدَّم فيها الجهاد بالنفس الذي هو أشرف صور الجهاد، وأغلاها، وأعظمها كما في قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: (إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)؛ في حين أنَّ الآيات التسعة الأخرى قدَّمت ذكر الجهاد بالأموال على الجهاد بالأنفس حيث عَدَّت الجهاد بالمال فضيلة عظيمة، وتجارة رابحة، وقرَنَتْ بينه وبين الإيمان بالله، والنجاة من النار كما في قوله تعالى من سورة الصف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم *تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون)، وفيما يأتي عرض للآيات القرآنية التي تقدَّم فيها ذكر الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وهي قوله تعالى:
1- (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا).
2- (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهَ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض).
3- (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون).
4- (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُم تعلمون).
5- (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّه عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِين).
6- (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهَ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّه).
7- (لَكِنَّ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون).
8- (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون).
9- (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون).
ولئن كان الجهاد بالنفس، والتضحية بها، وبذلها رخيصة في سبيل الله هو أعظم صور الجهاد كما أوضحتُ آنفًا، لكنْ لعلَّنا نتلمَّسُ في تقديم ذِكر الجهاد بالأموال على الجهاد بالأنفس في آيات القرآن الكريم دلالات وحكما وإشارات تكشف عن أسرار هذا التقديم، ومن بين تلك الدلالات:
1- أنَّ الجهاد بالنفس يحتاج إلى إعداد العدة، وتجهيز الجيش انطلاقا من قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْل)، والإعداد يحتاج إلى المال؛ فالمال مقدمة مهمة وضرورية للجهاد بالنفس، فلا يمكن أن يكون جهاد بالنفس دون توافر المال، لأن المال ينفع في جهات كثيرة، فبالمال يتم تجهيز المجاهد، وبالمال يشترى السلاح، والطعام والشراب، وتشترى الكسوة، والمؤونة والسلاح والذخيرة، وما أجمل ما ذكره الآلوسي رحمه الله في تفسيره لما قال: (لعل تقديم الأموال على الأنفس لِـمَا أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعاً، وأتم دفعاً للحاجة؛ فلا يُتصَوَر المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال).
2- الجهاد بالمال فيه تنبيه لذوي الأعذار من النساء والشيوخ والمرضى بقدرتهم على تحقيق فريضة الجهاد، والقيام بها، والمشاركة في الأجر والثواب مع المقاتلين، إذ إنَّ كثيرًا من المسلمين كانوا قادرين على الجهاد غير أنَّهم لا يملكون المال للتجهيز، وشراء عدة الحرب حتى جعلهم القرآن الكريم مع أصحاب الأعذار مما جعلهم يتألمون حزنًا لعجزهم عن الخروج إلى الجهاد في سبيل الله، قال تعالى: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنفِقُون).
ولا بد ههنا من أنْ نستذكر دور صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ودور عثمان بن عفان رضي الله على وجه الخصوص في غزوة تبوك التي سُمِّيتْ بغزوة العُسرة حين حفزَ الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين على بذل أموالهم في تجهيز الجيش بقوله: (منْ جَهَّزَ جيش العُسرة؛ فله الجنَّة)؛ فلبى أصحابه النداء، وتسابقوا كعادتهم في البذل، وضربوا أروع الأمثلة في العطاء، فجاء أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، وكان أربعة آلاف درهم، وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بنصف ماله، وجاء العباس رضي الله عنه بمالٍ كثير، وجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، وبألف دينار استجابة لنداء النبي صلى الله عليه وسلم حتى أكْبرَ النبي صلى الله عليه وسلم فِعْلَ عثمان رضي الله عنه، وقال: (ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم).
3- تذكير المسلمين في كل وقت وحين أنَّ الجهاد لا يقتصر على النَّفس فحسب- ذلك أنَّ الذي يتبادر إلى الذهن عند سماع كلمة الجهاد هو القتال في سبيل الله بالنفس والجسد-؛ بل إنَّ الجهاد يتأتَّى بكل وسيلة ممكنة، والمال وسيلةٌ من أهم هذه الوسائل، فالجهادُ بالمالِ بابٌ واسعٌ مِنْ أبوابِ الخيرِ يتسابقُ المتسابقون للدخولِ منه حتى ينالوا رحماتِ اللهِ تعالى، وحسبنا في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من جهَّزَ غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا).
4- الحبُّ الفطريُّ الشديد في نفس الإنسان للمال، واعتزازُه به، وحرصُه على جمعه كما في قوله تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمَّا)؛ فإنَّ إخراجَ المال وإنفاقَه يحتاجُ إلى مجاهدة للنفس، ذلك أنَّ المُنفقَ لا يضمنُ أنْ يرجع ماله إليه، أو أنْ يُعَوَّضَ مكانه، في حين أنَّ خروجه للجهاد والقتال فيه فرصة العودة إلى أهله وقومه بالنصر والغنيمة.
ولعلَّنا ندركُ في هذه الظروف العصيبة التي تشهد حرب إبادة جماعيَّة تشُنُّها عصابات الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني لا سيما في قطاع غزة، وفي مخيّمات الضفة الغربية؛ لعلَّنا ندرك قيمة بذل المال وتقديمه لأهلنا المضطهدين المشرَّدين الذين هُجِّروا من ديارهم حتى باتوا في العراء دون مأوى أو غذاء أو فراش أو غطاء في ظل البارد القارس الذي يلفح وجوههم، وفي ظل تكالُبِ قوى الكفر والشَّرِّ والطغيان كلِّها عليهم مع اجتماع الخذلان العالمي، والصمت العربي والإسلامي على المجازر التي ترتكب بحقِّ الشيوخ والنساء والأطفال.
بقي أن أقول: إنَّ هذه الأمة لن تعود إلى سابق عهدها مع مجدها التليد، ولن تتحرر من قيود الذل والهوان الذي تعيشه إلا بإحياء فريضة الجهاد؛ ففي الجهاد عزُّ الأمة وحياتُها، وبترك الجهاد ذلٌّ دائم ومقيم، كما في الحديث الذي يرويه ابن عمر رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلَّط الله عليكم ذُلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم).
اللهم فرِّج عن أهلنا في غزة ما هم فيه من البلاء والكرب العظيم، وانصرهم على أعدائهم من اليهود والصليبيين والمتآمرين…آمين، آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
تصنيفات : قضايا و مقالات