قبس من هدي النبوة “..فقد غزا”
د. إياد جبور
“من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا” متفق عليه
شرع الله الجهاد، حفظا للأمن البشري، وصيانة للدين، وحفظا للشرف، وحماية للأرض، والمال، ولم يكن للجهاد مقصد في استباحة الدماء، ولا انتهاك الحرمات، بل إن الأصل في مشروعيته رفع الظلم، والضيم “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير”. (الحج: 39)
وإنّ من طبيعة النفس البشرية المؤمنة الزكية أن تكره القتل، والقتال “كتب عليكم القتال وهو كره لكم”، (البقرة – 216) لكن الغاية السامية، والأهداف النبيلة تستلزم بذلا أكثر سموا، ونبلا، فيندفع المؤمن للذود عن دينه، وعرضه، وشرفه، مسترخصا في سبيل ذلك كل نفيس، فيجود بنفسه، وماله، وأهله، ولئن كان هذا الاندفاع المحمود ميسورا لبعض المسلمين، فقد يتخاذل عنه بعض آخر، ويكون في عداد المعذورين فريق آخر؛ لذا فقد جعل الإسلام لمن لم يدرك الفضل العظيم في البذل، أن ينال حظا منه، فجاء التوجيه النبوي الشريف “من جهز غازيا فقد غزا”؛ ليرسم لنا سبيلا يلحق المعذور في تخلفه عن الجهاد بمن لحق به في الأجر، رغم أن التفاوت في الفضل قائم، فلا يستوي قاعد بمجاهد، وشتان بين دمع العيون، وقطر الدماء، فحال المجاهد الذي يتخضب بالدماء، مع القاعد العابد، يصوره قول الشاعر:
من كان يخضب خدّه بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
فالمجاهد لم يَجُد بنفسه فحسب، بل بماله، وأهله، وولده، فهو يعلم علم اليقين أنه قد لا يعود إليهم، ولو كان المعيار ماديا بحتا، لصح القول إنه تركهم للضياع، ولكنها إرادة الله النافذة، وظلال رحمته الوارفة.
فيا من عجز عن اللحوق بركب الباذلين أدرك الفضل بالتجهيز، سواء بما يحتاجه المجاهد في ميدانه، أم في رعايتك أهله، وأسرته، ومن قصد الخير فتحت له أبوابه، وفي سيرة الصحب الكرام لنا دليل مرشد، فقد حبس العذر أحد المجاهدين عن الغزو، وصادف ذلك أن جاء أحد الصحابة النبي –صلى الله عليه وسلم- يريد الجهاد، وليس معه ما يجهزه للحاق بالمجاهدين، فقال له –صلى الله عليه وسلم- ائت فلانا –يعني الرجل الذي حبسه العذر- فقد كان تجهز فمرض. فأتاه الصحابي فقال: أعطني الذي تجهزت به. فقال مخاطبا زوجته: يا فلانة. أعطيه الذي كنت تجهزت به، ولا تستبقي منه شيئا، فوالله ما تحبسي منه شيئا فيبارك الله فيه.
نعم هكذا يكون نفس المؤمن مع المؤمن، وعزمه مع عزمه، وعقده مع عقده، يعطي بلا تردد ولا يريد أن يستبقي شيئا مهما كان يسيرا، ولك الباب مفتوح بفضل آخر أن تخلفه في أهله خيرا، تتعهد جائعهم، وتداوي مريضهم، وتؤازرهم بالكلمة الطيبة “ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا”، فالحرب مُرّة، والفقد أكثر مرارة، والحاجة عمياء، فإذا اجتمعت مع الفقد أحكمت العمى.
ولا عذر لمسلم كائنا من كان أن يتخلف في ظلال هذا الهدي الكريم عن نصرة من شردتهم الحرب، وأحرقهم لظاها في الأرض المباركة فلسطين، وغزة على وجه الخصوص، أو أن يقعد مكتفيا بالبكاء، أو متلذذا بمظاهر الغلبة على العدو، فما كانت تلك الغلبة إلا بثمن عظيم، هذا التشريد، وذاك الجوع، والدمار وفقدان الأهل والأحبة، فكيف والحال هذه يروق لك، وأنت تنظر فترى رأي العين أن تتقاعس عن البذل؟ فليس المعاين كالمخبر. لا أقل من بذل المال بكل سبيل متاح، ولا يعدم الفضل من سعى لتحقيقه.
ومن لم يكن عنده سعة، أو فضل فليدل أهل السعة والفضل، وليحضهم على البذل فإن “الدال على الخير كفاعله”، ولن تعذر أمة كتبت لها الخيرية بين الأمم أن ترى أبناءها بحال كحال أهل غزة، الذين لم يكتفِ العدو بتدمير بنيانهم، وقتل نسائهم، وولدانهم، وعجائزهم، حتى شردهم، وجوّعهم، فغدت بقايا أعلاف الحيوان خبزهم، هذا إن توفر منها نزر قليل، ولقد رأينا وسمعنا من يقسم أنه لم يأكل منذ شهر، وما خفي أعظم.
ليس مندوبا، بل واجبا لازما حتما على كل مسلم أن يشارك، أو يؤازر، أو يخلف، ولا عذر لأحد “ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز”…”فالله خير حافظا، وهو أرحم الراحمين”.
تصنيفات : قضايا و مقالات