التمكين للمؤمنين في قصة يوسف عليه السلام، د. جهاد شحادة
فبراير 17, 2024
للمشاركة :

بسم الله الرحمن الرحيم

التمكين للمؤمنين في قصة يوسف عليه السلام

د. جهاد شحادة

معلم في وزارة التربية والتعليم

الحمد لله رب العالمين، معز المؤمنين، ومذل الكافرين، والصلاة والسلام إمام المجاهدين، وقائد الغرّ الميامين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن النصر والتمكين للمؤمنين بعد الاستضعاف هو وعد من الله U في كتابه الكريم، حيث يقول I: (وَعَدَ ‌ٱللَّهُ ‌ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ) [النور: 55].

إن هذا الوعد الإلهي للمؤمنين قد برز واضحاً جلياً في قصة يوسف u، وذلك عندما اشتراه عزيز مصر، فجاء الإعلان الإلهي بتمكين يوسف u في الأرض، حيث قال I: (وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشۡتَرَىٰهُ مِن مِّصۡرَ لِٱمۡرَأَتِهِۦٓ ‌أَكۡرِمِي مَثۡوَىٰهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوۡ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدٗاۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ) [يوسف: 21]، ثمّ صار هذا الوعد واقعاً معاشاً عندما صار يوسف u على خزائن الأرض، فقال I: (وَكَذَٰلِكَ ‌مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُۚ نُصِيبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَآءُۖ وَلَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ) [يوسف: 56].

لقد أعلن الله U أنه في اللحظة التي صار يوسف u فيها عبداً – يباع ويُشترى- قد مكّن له في الأرض، وهنا نتساءل: كيف يكون التمكين ليوسف u في اللحظة التي صار فيها عبداً؟ والإجابة على هذا التساؤل قيل فيها الكثير، ومن ذلك: إنه تمكين في المنزلة، فإنه u لم يعامل كالرقيق، وإنما عومل بحفاوة وبمنزلة البيت الذي نزل فيه وهو بيت عزيز مصر([1])، وقيل إنه ابتداء التمكين ليوسف u بنزوله عند عزيز مصر ووضعه في موضع عنايته([2])، والذي أميل إليه أن التمكين لا يأتي من فراغ، بل لا بد له من شروط وأسباب، فإن تحقيق الوعد الإلهي بالتمكين وجعله واقعاً لا بد له من إعداد وصناعة للجيل المؤمن الذي يراد له التمكين في الأرض([3])، ويوسف u قد وُضع في المكان الذي تتم فيه تهيئته وإعداده حتى يستحق هذا الوعد الإلهي والتكليف الرباني، والذي يقرأ سورة يوسف u يجد ما بين الوعد بالتمكين وتحققه ثلاثة أمور رئيسية؛ هي التي أوصلت يوسف u إلى أن صار عزيز مصر، ولا يعني ذلك عدم وجود غيرها من الشروط، ولكن الشروط الأخرى غير مرتبطة بالبيئة والواقع الذي وُضع فيه يوسف u، بل هي متعلقة بالمؤهلات الشخصية التي آتاه الله I إياها، والتي هي من لوازم التمكين الأساسية كالعلم والحكمة، قال I: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ‌حُكۡمٗا ‌وَعِلۡمٗاۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ) [يوسف: 22]، وأما الأمور المتعلقة بالبيئة والواقع الذي وُجد فيه يوسف u ، والذي ساهم في تأهيله للتمكين فهي:

الأمر الأول: امتلاك الإرادة.

إن من أساسيات الأمة التي تعمل من أجل تمكينها في الأرض أن تمتلك زمام أمورها، وأن يكون قرارها بيدها لا بيد أعدائها، فضعيف الإرادة لا يصلح لقيادة نفسه، عوضاً عن قيادة غيره، أما قوي الإرادة فهو القادر على إدارة مصالح الأمة والقيام بشؤونها([4]).

وهذا يوسف u بلغ أشده في بيت العزيز وقد وهبه الله I من الجمال والبهاء الشيء الكثير، ويختلط بأهل ذلك البيت رجالاً ونساءً، وهذا الاختلاط في ذلك المجتمع الفاسد يكسر الكثير من الحواجز النفسية للمختلطين، بما يعين على تجاوز حدود الأدب في التعامل ويؤدي إلى ارتكاب الفواحش والموبقات، وهذا مما جعل امرأة العزيز تراوده عن نفسه وتحتال عليه وتخادعه لمواقعتها الفاحشة، وذلك بالمغازلة والممازحة حيناً، وبالتصنع والتجمل المغري حيناً، وبالألفاظ والحركات الجريئة جيئة وذهاباً حيناً آخر([5])، واستمرت على ذلك زمناً طويلاً، ويوسف u يغضي عنها، ويستعصم بإيمانه، حتى خاب تعريضها له، فلجأت إلى المكاشفة والمصارحة، (وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَٰبَ ‌وَقَالَتۡ ‌هَيۡتَ لَكَۚ) [يوسف: 23]، ومع ذلك يمتلك يوسف u إرادته وقراره، ويرفض الرضوخ لشهواتها رغم قدرته على فعل ذلك([6])، ويستمر الصراع بعد ذلك بين إرادة يوسف u ومراودات([7]) امرأة العزيز ومعها نسوة ذلك المجتمع المخملي الفاسد، وتنتصر إرادة يوسف u بلجوئه إلى ربه، واعتصامه بإيمانه، (قَالَ رَبِّ ٱلسِّجۡنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدۡعُونَنِيٓ إِلَيۡهِۖ وَإِلَّا تَصۡرِفۡ عَنِّي كَيۡدَهُنَّ أَصۡبُ إِلَيۡهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ) [يوسف: 33].  

وإن أحد أسباب ضعف الأمة المسلمة وعدم التمكين لها هو أنها لا تمتلك إرادتها، وقرارها بيد أعدائها، فهي ضعيفة أمام شهواتها ومصالحها، ولا تستطيع الوقوف في مواجهة أعدائها، ولو امتلكت الأمة اليوم إرادتها لحققت الكثير ولسادت الدنيا، وقد رأينا أن بقعة من بلاد المسلمين هي (قطاع غزة)، صغيرة في مساحتها، كبيرة بإيمانها وتضحياتها، قد صنعت ما عجزت عنه دول كبيرة من بلادنا المسلمة- رغم أنها محاصرة من القريب والبعيد- لأنها امتلكت إرادتها، ورفضت الرضوخ للمغريات بشتى أصنافها على حساب مبادئها، وأبت أن تنصاع لشهوات الآخرين ومصالحهم، مقابل التنازل عن حقها.

الأمر الثاني: الصبر على المحن والابتلاءات.

إن من الشروط والأسباب التي تساهم في تمكين الأمة، هي تحمّلها للصدمات المختلفة من أعدائها، لأنهم سيبذلون ما يستطيعون من أجل ألا تمتلك إرادتها، وسيعملون على عدم وصولها إلى الإمامة والتمكين، فإذا اجتهدت في سبيل ذلك، فإنها ستواجه بالاتهامات الجاهزة، والمؤامرات الدائمة، وتقنين العقوبات الظالمة، والحصار الجائر بحقها، لذلك فإن عليها أن توطن نفسها- إذا أرادت الإمامة والتمكين- على تحمّل المحن والشدائد، والتحلي بالصبر الجميل مع اليقين بأن النصر والتمكين قادمَيْن بإذن الله U، قال I: (وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ ‌وَكَانُواْ ‌بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ)  [السجدة: 24]، وسئل الشافعي: ” أيما أفضل للرجل، أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى، والله I ابتلى أولي العزم من الرسل، فلمّا صبروا مكنهم”([8]).

وهذه مرحلة من مراحل التمكين ليوسف u، فإنه لما رفض الرضوخ لشهوة النسوة، وأبى التنازل عن إرادته، أودع السجن ظلماً، قال I: ﵟثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا رَأَوُاْ ٱلۡأٓيَٰتِ ‌لَيَسۡجُنُنَّهُۥ ‌حَتَّىٰ حِينٖﵞ [يوسف: 35]، فكان في سجنه صابراً محتسباً، لم يغيّره القيد، ولم يفسد خلقه الأسر، فقد وصفه من دخل معه السجن بقولهم: ﵟإِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَﵞ [يوسف: 36]، وتأثروا به واستفتوه في رؤياهم لما رأوا من حسن خلقه وصبره، وبقي على ذلك حتى خرج من سجنه عزيزاً نقياً منتصراً.

واليوم غزة المحاصرة منذ نحو عقدين من الزمن، تحقق هذا الشرط وتخوض هذه المرحلة من مراحل التمكين، فتصنع مجد الأمة بجميل صبرها وحسن احتسابها، وتعلم العالم الدروس العظيمة في الصبر والتضحية، وتحرك مشاعر الغافلين، وتوقظ فكر النائمين، فإذا شعوب العالم تؤمن ببراءتها، وتخرج صارخة لرفع الظلم عنها، وعشرات الآلاف يهتفون بهتاف بلالٍ وهو تحت سياط أميّة: “أحدٌ أحد”، مؤذنين باقتراب فجر جديد لهذه الأمة بالنصر والتمكين.

الأمر الثالث: عدم قبول التمكين المشوه.

إن من شروط التمكين الحقيقي عدم القبول بالتمكين المنقوص أو المشوه، فقد يعرض على الجماعة المؤمنة المنصب أو الحكم، ولكن وفق شروط الدول الكبرى، وتحت مظلة التبعية للقوى المهيمنة، أو أن يكون ما يعرض عليها للتمكين مسبوقاً أو مصاحباً لصور من الظلم أو الفساد أو التآمر، فعندئذٍ على الجماعة المؤمنة ألا تقبل بهذه الصورة للتمكين، ولو بقيت فترة أخرى تحت الابتلاء والتمحيص؛ لأن قبولها بذلك يعني تشويه صورتها الناصعة المبنية على فكرتها النقيّة، وبالتالي سقوطها أو سقوط فكرتها.

فيوسف u لما جاءه الرسول ليخرج من السجن، رفض الخروج حتى تكون تظهر براءته، وتنقى صورته، ويتبين الحق واضحاً في قضيته، ﵟٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسۡـَٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيۡدِهِنَّ عَلِيمٞﵞ [يوسف: 50]، فلما ظهرت براءته، وتبينت كرامته وإباؤه؛ خرج من السجن متمكناً آمناً يضع شروطه هو بكل ثقة وطمأنينة: ﵟٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞﵞ [يوسف: 55]([9]).

“والعجب من رجال يمرغون كرامتهم على أقدام الطغاة، ويضعون نير الخضوع في أعناقهم- وهم مطلقو السراح- متهافتين على نظرة رضا وكلمة ثناء، وعلى حظوة الأتباع لا مكانة الأصفياء، يا ليتهم يقرأون سورة يوسف ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز فيها من التمكين والربح أضعاف ما في التمرغ والتزلف والانحناء”([10]).     

                                                                        جهاد شحادة

21/1/2024 م.


([1])  نوفل، سورة يوسف دراسة تحليلية، 330، ط. دار الفرقان، 1409 ه.

([2])  ابن عاشور، التحرير والتنوير، 12/274، الدار التونسية، 1984 م.

([3])  تراجع شروط وأسباب التمكين من كتاب “تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين” لعلي الصلابي.

([4])  الميداني، الأخلاق الإسلامية، 2/150. ط. دار القلم، 1420 ه.

([5])  الراغب الأصفهاني، المفردات، 371، ط دار القلم، 1412 ه. ابن منظور، لسان العرب، 3/188-191، ط. دار صادر، 1414 ه.

([6])  رضا، تفسير المنار، 12/228، ط. الهيئة المصرية للكتاب، 1990 م. قطب، في ظلال القرآن، 4/1980، ط. دار الشروق، 1401 ه.

([7])  ومن جميل النحو هنا أن الإرادة والمراودة ترجعان إلى أصل واحد في اللغة، وهو (رَوَدَ)، ولكنّ الإرادة هي نزوع النفس لأمر تريده هي، أما المراودة فهي منازعة الغير في إرادته، بأن تريد منه غير ما يريد. الراغب الأصفهاني، المفردات، 371.

([8]) ابن القيم، زاد المعاد، 3/14، ط. مؤسسة الرسالة،  1410 ه.

([9])  رضا، تفسير المنار، 12/265. قطب، في ظلال القرآن، 4/1994.

([10])  قطب، في ظلال القرآن، 4/2005.

تصنيفات :