بسم الله الرحمن الرحيم
هشام بن عمرو وجامعة كولومبيا
لمّا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام بالدعوة الإسلامية، وفشا الإسلام في مكة، بدأت قريش في محاربة الدعوة الإسلامية بقوة، فكان التعذيب والإيذاء والقتل والتهجير، وقابل ذلك الصبر والتحمّل والثبات، والتسليم بقضاء الله وقدره، فزادت قريش غيظاً وحقداً وبدأت تمكر لقتل رسول الله، ولما رأى أبو طالب مكر قريش، وحرصهم على قتل رسول الله “جمع بني عبد المطلب، وأمرهم أن يُدخِلوا رسول الله شِعْبهم، ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً”([1])، وهنا عزمت قريش – وعلى رأسها أبو جهل- أن توسع حربها لتشمل بني هاشم وبني المطلب الذين كانوا الدرع الحامي والملاذ الآمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ابن القيم: “فلما رأت قريش أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلو والأمور تتزايد، أجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب، أن لا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، وانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنهم وكافرهم إلا أبو لهب، فإنه وقف في صف قريش، وحُبس رسول الله ومن معه في شعب أبي طالب”([2])، واشتد الحصار على رسول الله وصحابته الكرام، ومعهم بني هاشم وبني المطلب، وقُطع عنهم الطعام والشراب، ولم يكن يصلهم إلا ما يدخل خلسة، حتى بلغهم الجَهد والجوع، فأكلوا أوراق الشجر والجلود، وكانت تُسمع أصوات نسائهم وبكاء أطفالهم وهم يتضاغون من الجوع، واستمروا على ذلك ثلاث سنين([3])، فكانت مقاطعة اقتصادية واجتماعية ونفسية، وما شمله ذلك من أذى وتجويع وتضييق سبل العيش، مما لا يستطيع احتماله إلا صاحب إيمان عميق، وعقيدة صادقة، ونحن اليوم نعيش هذه المرحلة رؤيا العين من خلال ما يتعرض له أهل غزة خاصة، وفلسطين عامة من قتل وتشريد، ومصادرة للممتلكات، وهدم للبيوت، واعتداء على المقدسات، وعقاب جماعي، وحصار اقتصادي، وخذلان عربي وإسلامي، وتآمر دولي، ويُواجه كل ذلك بالصبر والثبات على الأرض، رباطاً وجهادا.
كانت قريش بين راضٍ لوثيقة المقاطعة وكاره لها، فذهب هشام بن عمرو إلى زهير بن أبي أمية المخزومي، ليقوم على نقض الوثيقة: فقال له زهير: “ويحك، فما أصنع وما أنا إلا رجل واحد، أما لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها”، قال هشام: “قد وجدت رجلاً، أنا أقوم معك”، فقال زهير: “أبغنا رجلاً ثالثاً”، فذهب هشام إلى المطعم بن عدي، فقال له المطعم مثل ما قال زهير، ثم ذهب إلى أبي البحتري بن هشام، فقال له مثل من سبقه، ثم ذهب إلى زمعة بن الأسود، فاجتمع الخمسة وعزموا على نقض الصحيفة، وكانوا كلهم على الكفر([4])، فلما أصبحوا غدوا إلى مجالس قريش، وغدا زهير بن أبي أمية إلى الكعبة، فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس: يا أهل مكة، أنأكل ونشرب ونلبس، وبنو هاشم هلكى، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة، فقال له أبو جهل: كذبت، والله لا تُشقّ، فقام زمعة وقال: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت، وصدقه أبو البحتري ثم وافقه المطعم بن عدي ثم هشام، فقال أبو جهل: “هذا أمر قُضي بليل، أي دُبّر بليل، في غير هذا المكان”، فقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها ، فوجد حشرة الأرَضة قد أكلتها ولم تبق منها إلا “باسمك اللهم“، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب([5]).
إن أحداث المقاطعة ونقض صحيفتها فيها العديد من الدروس والعبر:
1- إن هشام بن عمرو لم يقم بما قام به انتصاراً للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حركته فطرته السليمة التي ترفض الظلم وانتهاك حق الإنسان في الحياة الكريمة، وهو ذاته الدافع الذي حرّك من قاموا معه لنقض الصحيفة، واليوم ما بدأ به طلبة جامعة كولومبيا، وتبعهم فيه طلبة جامعات أخرى في أمريكا وغيرها، فهم لم يقوموا باحتجاجهم واعتصامهم نصرة لحماس أو محبة في أبي عبيدة او السنوار، وإنما دفعهم لذلك ما رأوه من ظلم وإبادة جماعية تقوم بها “إسرائيل” بحق أهل غزة، وما قامت وتقوم بها دولهم من إمداد “إسرائيل” بالمال والسلاح، وما قامت به جامعاتهم من اتفاقيات مع هذه الدولة التي ترتكب هذه المجازر بحق شعب أعزل مضطهد.
ومع ذلك فإن ما قام به هشام بن عمرو ومن سانده يعضد موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكشف حجم الظلم الواقع عليه وعلى أتباعه وأنصاره، كما يكشف ويؤكد- اليوم- ما يقوم به طلبة الجامعات الأمريكية وغيرها- ابتداء من جامعة كولومبيا الرائدة في هذا الحراك الطلابي- من صوابية وعدالة ما قامت به حركة حماس من ثورة على الظلم والاضطهاد والاحتلال الواقع على الشعب الفلسطيني منذ ما يزيد عن مائة عام، ولهذا فإننا نرى هذا التحول في موقف العديد من الطلبة وغيرهم، وهذا التغير المتنامي في الشارع الأمريكي والغربي في العداء “لإسرائيل”، والتأييد لحركات المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس لاتضاح صورتها في الدفاع عن الظلم الواقع على شعبنا.
2- إن عبارة زهير بن أبي أمية ومن بعده: “فما أصنع وما أنا إلا رجل واحد”، تصف حال الكثيرين منا، بل حال معظمنا تجاه ما يحصل في غزة من إبادة، وما يقع في الضفة من اعتداءات للمستوطنين على قرانا وأراضينا ومقدساتنا، ولكن هشام بن عمرو لم يقف صامتاً رغم أنه رجل واحد، بل تحرك لنقض الصحيفة بطريقة ذكية، فذهب أولاً إلى زهير بن أبي أمية، لأنه جمع بين أمرين: أولهما أنه من بني مخزوم قبيلة أبي جهل بن هشام، فهو الأقدر على مواجهة أبي جهل أكثر من غيره، وثانيهما أنّ بني هاشم وبني المطلب هم أخواله، فأمه هي عاتكة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخت أبي طالب([6])، وأما باقي الخمسة فهم من سادة قريش ممن عرفوا كرههم لهذه الوثيقة.
إن كل واحد منا لا يستطيع وحده فعل شيء أمام ما يحدث من قوة باطشة، وجرائم فظيعة، ولكننا إذا تحركنا بطريقة ذكية – كما فعل هشام- بالبحث عن مفاصل القوة المؤثرة، وجمعنا كلمتنا، ووحّدنا مكامن قوتنا فإننا نستطيع التأثير، فإننا نرى اليوم كيف أن الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وعدداً من منظمات حقوق الإنسان والمؤسسات الدولية
كان لها دور كبير في فضح دولة الاحتلال، وكشف ما ترتكبه من مجازر وجرائم بحق الإنسانية، وإبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني.
3- “هذا أمر دُبّر بليل، في غير هذا المكان”، كلمة قالها أبو جهل تصف واقع اليوم بدقة، إن دولة الاحتلال ومن ورائها أمريكا اليوم على رأس قوى الاستكبار والظلم العالمي، تعتبر أن الشرعية شرعيتها، وأن كل ما يحصل خارج دائرتها خارج عن الشرعية الدولية، وأي قوة تتعارض مع مصالحها وتحالفاتها هي قوة خارجة عن القانون الدولي، وأي تحالف لا ترتضيه، ولا يتفق معها هو مؤامرة مدبرة في الخفاء تهدف إلى تقويض الأمن والسلم العالميين، أما ما تقوم به “إسرائيل” من حصار ودمار وتجويع ومجازر في غزة، فهذا يتفق مع الشرعية الدولية، لأنه دفاع عن النفس – كما تزعم- يأتي رداً على اعتداءات السابع من تشرين الأول، أما قوى المقاومة في الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال – منذ قرن من الزمان- إذا قامت وشكلت محوراً لمواجهة ظلم الاحتلال وغطرسته، فإنها تعتبر قوى متآمرة على الشرعية الدولية، وضد الأنظمة والقوانين الدولية.
إن المطلوب الوقوف في وجه الغطرسة الأمريكية ومن يقف معها، وتكذيبها وفضحها، كما فعل سادة قريش الرافضين لميثاق الظلم والعدوان والحصار([7])، وتوحيد موقف الدول الرافضة لمجازر الاحتلال كجنوب إفريقيا وتركيا وإسبانيا وكولومبيا وغيرها، ومساندة ودعم مواقف العلماء والمفكرين وطلبة الجامعات والشعوب، لكي يقول هؤلاء جميعاً “لإسرائيل” وأمريكا ومن لف لفيفهما: “أنتم الأكذب”.
4- “باسمك اللهم”: كلمة تلخص حقيقة هذا الصراع ونهايته، “باسمك اللهم”، هي ما تبقى من وثيقة الظلم والعار والعدوان، فاسم الله I هو المنتصر، والله I هو الناصر: (وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40]، ومهما حاصروا، ومكروا وخططوا، وصنعوا من تحالفات، وعقدوا من مؤتمرات ومؤامرات، فإنها جميعاً إلى زوال، وستبوء بالفشل، فالاحتلال إلى زوال بعد الهزيمة المدوية التي مُني بها، وحصار دولة الاحتلال ومجازرها وتدميرها، ستنتهي وسيخرج شعبنا منتصراً حراً، كما خرج رسول الله وأصحابه وأنصاره من شعب أبي طالب، وستخرج أمريكا وحلفاءها مخذولين، وسينتصر أهل غزة بجنود صادقين مخلصين من هذا الشعب وهذه الأمة، وأيضاً بمناصرة من أحرار العالم، وبجنود لا نعلمهم، ولا ندري من أين أتوا، (وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ) [المدثر: 31]، ولن يبقى إلا “باسمك اللهم“.
([3]) البيهقي، دلائل النبوة، 2/311، ط. العلمية، 1408 ه. المباركفوري، الرحيق المختوم، 110، ط. الريان، 1434ه.
([4]) أسلم هشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية بعد فتح مكة، أما الثلاثة الآخرين فماتوا على الكفر.
([5]) ابن هشام، سيرة ابن هشام، 1/374-376، ط. البابي الحلبي، 1375 ه.
([6]) ابن هشام، سيرة ابن هشام، 1/375.
([7]) المباركفوري، الرحيق المختوم،
تصنيفات : قضايا و مقالات