“والله لو كان غير الجنّة لآثرتك به”
لما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين يوم بدر إلى الخروج، فأسرعوا، قال خيثمة بن الحارث لابنه سعد رضي الله عنهما: “يا بني، آثرني بالخروج، وأقم مع نسائنا”، فأبى سعد، وقال: “يا أبت، والله لو كان غير الجنة لآثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا”، فاستهما، فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فقُتل(1).
يتنافس الأب والابن على الخروج للجهاد لعل الخارج أن ينال الشهادة في سبيل الله I، فلا يؤثر أحدهما الآخر، ولم يتفقا حتى بلغ الأمر منهما أن اقترعا بينهما، فيخرج السهم للابن، فيخرج، وينال ما تمناه، ولكنّ الأب خيثمة لم ينتظر بعد ابنه طويلاً، فما لبث أن لحق به بعد عام في غزوة أحُد(2)، رضي الله عنهما وأرضاهما.
نستذكر هذه الحادثة ونحن نشاهد هذيْن المقاوميْن، في معارك وسط جباليا، وهما يتنافسان، في حوار أشبه بالجدال، يقول أحدهما لصاحبه: “هاي إلي ، سيبها سيب (أتركها)، بالله عليك سيبها”، والآخر متمسك بها بشدة، إنه يطلب منه أن يترك له “عبوة العمل الفدائي” لكي يقوم بإلصاقها في جسم دبابة الاحتلال، كل واحد منهما يريد أن يخاطر بحياته، وأن يكون له شرف زرعها وإلصاقها، لعله أن ينال بها إحدى الحسنيين، إما الإثخان في العدو، أو الشهادة، ولا ندري من فاز بهذا الفخر، المتمسك أم المتكلم، المهم أن العمل أنجز والمطلوب قد تحقق.
إنّ هذا المشهد، كما مشهد خيثمة وابنه سعد رضي الله عنهم فيهما دروس عظيمة، يمكن تناولها باختصار:
الدرس الأول: إنها التربية التي خرجت من معين واحد، إنها التربية الإيمانية الحقيقية، التي استقت مبادئها من منهج كتاب الله عز وجل، وفي مدرسة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فهذه النماذج ليست مقتصرة على جيل دون جيل، بل إننا نجدها في كل الأجيال التي استقت من ذات النبع الصافي الرقراق، وتربّت على موائد القرآن، فتجردت لربها، ولم تتكدر بكدر الدنيا ولذائذها وبريقها.
الدرس الثاني: إنه الإيمان الحقيقي البعيد عن التكلّف وعلم الكلام، هذا الإيمان الذي يعلي صاحبه ويجعله يحلّق عالياً في جنان الخلد، بحيث صارت الدنيا أمام العيْن المؤمنة البصيرة صغيرة لا تكاد تُرى.
كان هذان البطلان يستشعران الجنّة بالقلوب ويرونها أمام النواظر، كما استشعرها الصحابة رضي الله عنهم من قبل أمثال: سعد وخيثمة، وكما رآها واشتمّها أنس بن النضر يوم أحُد: “واهاً لريح الجنّة، إني أجده دون أحُد”(3)، فكانت الجنة التي هانت دونها الآلام الناتجة على بضع وسبعين جرحاً ما بين طعنة ورمية وضربة، وكما فعل صاحبه عمير بن الحمام رضي الله عنه الذي أقبل على القوم وكان لا يَرى بينه وبين الجنة إلا أن يُقتل، فألقى تمرات كانت في يده، هي آخر ما كان يحمله من متاع الدنيا، وانطلق مرتجزاً:
ركضاً إِلَى اللَّه بغير زاد إلا التقى وعمل المعاد(4).
الدرس الثالث: التضحية والفداء: إنّ هذه الحادثة تكشف لنا إلى أي مستوى بلغ هؤلاء الأبطال من التضحية والإقدام، وإلى أي منزلة وصلوا من الفداء، ليحمل أحدهم عبوة الموت ليكون هو لا أخوه من يقبل على هذه المهمة التي قد تحمل بين خطواتها القتل، وإن العاقل ليحتار وهو يشاهد هذه المشاهد: أهي الأثَرة بالجنّة، أم الإيثار بالتضحية والفداء، وفي كلتا الحالين فقد بلغ هؤلاء الرجال الذروة فيها، كما بلغها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الدرس الرابع: “إنهم إخوة بعضهم من بعض”: كلمات قالها عمر رضي الله عنه في وصف بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (5)، وهؤلاء الأبطال يلتقون مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأخوة الإيمانية والتربية الربانية، وهذه الحادثة- رغم ندرة مطالعتنا لأمثالها- ليست غريبة، ولم ينته العهد بها وبأمثالها، وللتاريخ فقد رأيناها في العام 1993م مرتين على سبيل المثال لا الحصر:
الأولى: عندما أصرّ الاستشهادي ساهر التمّام من نابلس على أن يقوم هو بتنفيذ عملية “محولا” في بيسان، رغم أنها كانت مقررة للأسير أشرف واوي(6)، وتجادلا، حتى في النهاية أقرع بينهما المهندس العياش، وكانت القُرعة لصالح ساهر، نسأل الله أن يتقبل الجميع.
الثانية: في ذات العام وبعدها بقليل، عندما رفض الشيخ الاستشهادي سليمان غيظان من قبيا النزول من السيارة المعدة لعملية “بيت إيل”، والتي كانت مقررة للاستشهادي سلامة يوسف من سنجل، وذهب ونفّذ العملية، ولم يستطع سلامة أن ينتظر بعده طويلاً فاستشهد بعد أقل من شهر أثناء تنفيذ عملية مشابهة.
إن هذه اللوحات المشرفة من معركة طوفان الأقصى كثيرة، وكل لوحة نشاهدها منها- وما لم نشاهده أكثر بكثير- نجد لها امتداداً يرجع بنا إلى الصفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سار على دربهم، ونهل من معينهم، واتبع النور الذي استضاءوا به، فأبو طعيمة الشهيد الساجد يذكرنا بخبيب بن عدي رضي الله عنه، وهو يسجد لله I ركعتين قبل صلبه في التنعيم(7)، ويصر أن يكون آخر عهده بالدنيا أن يولي وجهه جهة القبلة(8).
وهذان المقاومان على سطح إحدى بنايات جباليا، يشتبك الأول، فيصاب ثم يقوم مرة أخرى، فيشتبك ويستشهد، فيأخذ المقاوم الثاني سلاح الأول فيشتبك به حتى يستشهد هو الآخر، هذا المشهد يذكرنا بقادة مؤتة، يستشهد زيد رضي الله عنه، فيأخذ الراية جعفر رضي الله عنه، فيقاتل فتقطع يمينه، فيحمل الراية بشماله فتقطع هي الأخرى، فيحمل الراية بين عضديه حتى يستشهد، فيأخذ الراية ابن رواحة رضي الله عنه ، فيقاتل حتى يستشهد(9).
(مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3/367، ط. العلمية. ابن عبد البر، الاستيعاب، 2/588، ط. دار الجيل.
- ابن عبد البر، الاستيعاب، 2/458. الذهبي، سير أعلام النبلاء، 1/266. ط. الرسالة.
- صحيح مسلم، 3/373. ط. دار الحديث.
- ابن عبد البر، الاستيعاب، 3/1214. ابن الأثير، أُسد الغابة، 4/279، ط. العلمية.
- الطبراني، المعجم الكبير، 20/33، ط. مكتبة ابن تيمية.
- من بلعا قضاء طولكرم، اعتقل سنة 1993 م، وحكم عليه بالمؤبد مرتين، أفرج عنه في صفقة وفاء الأحرار، ثم أعيد اعتقاله.
- صحيح البخاري، 3/1108، ط. دار ابن كثير.
- الواقدي، المغازي، 1/360، ط. دار الأعلمي. المقريزي، إمتاع الأسماع، 13/278. ط. العلمية.
- المباركفوري، الرحيق المختوم، 390، ط. الريان.
تصنيفات : قضايا و مقالات