وقفة قرآنية مع قوله سبحانه (فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ یُسۡرًا)، القاضي الشيخ رائد سبتي
مايو 31, 2024
للمشاركة :

آية عظيمة من كتاب الله هي تسلية لكل مهموم وبشرى لكل مكروب وأمل لكل محزون (فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ یُسۡرًا)، هذه الآية جاءت في قلب سورة الشرح لمعنى لطيف، ذلك أن يقين المؤمن بها وبوعد الله فيها يسكب طمأنينة في القلب ويؤدي إلى انشراح الصدر!! ولله در القائل:

إذا أصبحت في عسر.. فلا تحزن له وافرح

فبعد العسر يسر عاجلٌ.. واقرأ (ألم نشرح)

إن أولى بشارات هذه الآية، وأول نتائجها انشراح الصدر والسكينة والتفاؤل مهما عظم العسر وكبر المصاب، كيف لا؟! وهي وعد إلهي وسنة من سننه سبحانه 

هذه الآية دفقة أمل حين يشتد المصاب ويتكالب الأعداء وتضيق الحلقات، لذلك أكد النبي صلى الله عليه وسلم على دلالتها ومفهومها فقال: واعلَمْ أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا.

 وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين بلغه أن أبا عبيدة حُصِرَ بالشام، وقد تألب عليه القوم، فكتب إليه يثبته ويذكره بمدلول هذه الآية: أما بعد: فإنه ما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة إلا يجعل الله له بعدها فرجا، ولن يغلب عسر يسرين، و(يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (

منهج لبناء النفس بالثقة واليقين والتفاؤل:

إن هذه الآية ليست فقط بشرى إلهية وقانون رباني بل هي منهج لبناء النفس، لتكون نفسا إيمانية مشبعة بالتفاؤل والثقة واليقين لا تستكين ولا تستسلم، ولا تخضع لملمات الحياة ومصائبها، فضلا عن أعدائها؛ لأنها تستيقن أن عاقبة المؤمن خير مهما اشتدت عليه البلايا والأزمات.

هذه الآية منهج في محاربة اليأس والقنوط:

هذا الداء الذي قد يتسلل إلى النفس البشرية فيدمرها. ويتسلل إلى الأمة فيوهنها ويسقطها، فالحياة دون أمل أشبه بالجحيم لأن القلوب إذا قنطت ماتت! والنفوس إذا أحبطت خارت! والأمم إذا يئست، سقطت وهزمت واستسلمت!

والهزيمة النفسية أشد وطأ من الهزيمة المادية لأن من لم يهزم نفسياً، لن تؤثر فيه الهزيمة المادية فلا يقنط ولا ييأس، يصبر على مشاق الحياة ومصائبها بل يدفعه الأمل أن يلملم جراحه وعزيمته وكفاحه ويعاود النهوض ويتجاوز الهزيمة والفشل، أما من هزم نفسيا وتسلل اليأس إلى قلبه فإن اليأس يفقده قوته وعزيمته ويشل حركته وإن عاش فإنه يعيش على هامش الحياة بنظرة سوداوية لا قيمة لها ولا وزن ولا أثر ولا هدف!

أعلل النفس بالآمال أرقبها       ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.

صراع بين منهجين دعاة الأمل ودعاة اليأس:

في الصراع بين أهل الحق والباطل، ما يرجح كفة أهل الحق ويثبتهم اليقين بهذه الآية وأمثالها من المبشرات، وأخطر ما يقوم به الأعداء وأعوانهم من المنافقين هو نشر ثقافة الإحباط والتخذيل والهزيمة النفسية، فتراهم يطعنون ويشككون ويستهزئون بوعد الله كما أخبر الله عنهم (وَإِذۡ یَقُولُ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۤ إِلَّا غرورا ۝١٢) (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم).

ولعظم أثر ما فعلوه من بث اليأس والتخويف توعدهم الله بقوله (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا).

هؤلاء الذين قالوا يوم الأحزاب يعدنا محمد قصور كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يقضي حاجته، كما هو لسان حال كثير من الرويبضة في هذا الزمان الذين يشككون بوعد الله بنصر المخلصين من المؤمنين على الأحزاب في هذا العصر ممن تكالبوا على غزة وفلسطين.

وإن أهم ما يواجه به هؤلاء بث البشرى وشحذ النفوس والهمم، قال ﷺ: بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا. إن وعد الله للفئة المؤمنة بالنصر والاستخلاف والتمكين والأمن والأمان بعد ذلة وخوف واضطهاد سنة من سننه ماضية لا تتبدل ولا تتخلف تحققت في السابقين وستتكرر في الآخرين

قال الله: وَنُرِیدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِینَ ٱسۡتُضۡعِفُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَىِٕمَّةࣰ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَ ارِثِینَ ۝٥ وَنُمَكِّنَ لَهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَنُرِیَ فِرۡعَوۡنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنۡهُم مَّا كَانُوا۟ یَحۡذَرُونَ ۝٦

وقال سبحانه: وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَیَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَیُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِینَهُمُ ٱلَّذِی ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنࣰاۚ یَعۡبُدُونَنِی لَا یُشۡرِكُونَ بِی شَیۡـࣰٔاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَلِكَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ.

وهذا نبينا ﷺ يبث الأمل في النفوس في أحلك الظروف ويبشر أصحابه رضي الله عنهم بالنصر والتمكين؛ فقد جاءه خباب رضي الله عنه يشكو له ما لاقى ويستنصره ﷺ (ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا)، فكان من جوابه ﷺ: (والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري

شرط مهم للفرج:

رغم أن الآية دفقة من البشرى والأمل بالفرج بعد الشدة إلا أن لتحقق الفرج شرطا مهما ذكره الله سبحانه في آية أخرى قال سبحانه:( وَمَن یَتَّقِ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّهُۥ مخرجا)، وقال (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تَتَّقُوا۟ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّكُمۡ فرقانا) وفرقانا: مخرجا أو نجاة أو نصرا. (تفسير ابن كثير). فتقوى الله هي مفتاح الفرج، ففي قصة يونس عليه السلام في سورة الصافات دلالة خطيرة وتنبيه مهم، قال سبحانه: فَٱلۡتَقَمَهُ ٱلۡحُوتُ وَهُوَ مُلِیمࣱ ۝١٤٢ فَلَوۡلَاۤ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُسَبِّحِینَ ۝١٤٣ لَلَبِثَ فِی بَطۡنِهِۦۤ إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ ۝١٤٤

ومفهوم الآية أن يونس عليه السلام لولا أنه قام بأسباب الفرج بصلته المميزة مع الله، بتقوى الله، لدامت عليه الشدة ولبقي في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، وتأمل إن هذا الكلام في حق نبي، فكيف بمن دونه!

وفي قصة يوسف عليه السلام قال الله: (فَأَنساهُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِی ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِینَ)!

إنما يأتي الفرج إذا كانت الشدة سببا في شدنا إلى الله! عودتنا إلى الله!، لذلك جاء التعقيب على الوعد الإلهي بتوجيه مهم دقيق (فَإِذَا فَرَغۡتَ فَٱنصَبۡ ۝٧ وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَب).

وأخيرا إن وعد الله بالفرج لا بد أن يكون دافعا للعمل، وسعيا بالأسباب، ولنا في أمنا هاجر عليها السلام أسوة لما نفذ الماء والزاد منها هرولت تسعى بين الصفا والمروة بحثا عن غوث لها ولابنها إسماعيل عليه السلام، يقينها بالله أنه لن يضيعهما لم يقعدها عن السعي طلبا للفرج. وجاء الفرج من تحت قدم الغلام من حيث لا تحتسب ماء مباركا، وكان سعيها نسكا للأمة تخليدا لفعلها وتعليما أن الفرج لا يأتي دون سعي وبذل الأسباب مع التوكل على الله. قَالَ الإمام الشافعي:

صَبرا جَميلا مَا أقرَبَ الفَرجا … مَن رَاقَب اللَّهَ فِي الْأُمُورِ نَجَا …

مَن صَدَق اللَّهَ لَم يَنَلْه أذَى … وَمَن رَجَاه يَكون حَيثُ رَجَا …

هذا والحمد لله رب العالمين

تصنيفات :