من المسَلّمات عند كل عالم بالشريعة الإسلامية أن الله عزّ وجلّ لم يشرع لنا فيها شيئًا عبثًا بدون مقصد ولا غاية، فوراء كل حُكْمٍ حِكمة، وخلف كل أمر أو نهي هدف يسعى من خلاله إلى تحقيق مصلحة العباد؛ بجلب المنافع لهم أو تكميلها، ودفع المضار عنهم أو تقليلها. والوقوف على هذه الغايات والحِكَم يجعل الحكم أقرب إلى الانقياد، وأسرع في القبول، وأدعى إلى تحصيل مقصود الشارع من شرع هذه الأحكام.
وعليه فإن وراء الأعياد في الإسلام فلسفة تقوم عليها، وغاية تسعى إلى تحقيقها، فهي ليست مجرد أيام أكل وشرب، ولهو وفرح، وتنزه، ولبس للجديد من الثياب، وإن كانت كل هذه الأمور من مظاهر العيد المسنونة في الإسلام، إلّا أنّ هذه المظاهر ليست هي الهدف الأساسي من العيد، حيث إنها إن تجردت من معانيها تصبح جوفاء لا أثر لها في حياة الفرد والمجتمع، حيث يتلاشى كل شيء فيها مع غروب شمس أول أيام العيد.
ومن هنا ونحن نعيش أيام عيد الأضحى المبارك، لا بد أن نقف على مجموعة من المفاهيم الأساسية التي يجب على كل فرد مسلم استحضارها في العيد، مع التأكيد على أنه من الضروري أن تكون هذه المفاهيم ليست مجرد تاريخ يروى لأحداث حصلت في الماضي تشكلت منها فلسفة العيد عندنا في الإسلام، فإنها إن لم تكن مرتبطة بواقعنا الذي نعيشه، والأحداث التي نمر بها -وخاصة في أرض الإسراء والمعراج، وأرض غزة منها على وجه الخصوص- فإنها لن تؤتي أُكُلها، ولن تتحقق الغاية التي شُرعت من أجلها.
وبناء عليه، فلا بدّ من الوقوف على جملة من المفاصل الأساسية التي تشكل فلسفة عيد الأضحى في الإسلام، فلكل شعيرة فيه جذر نستقي منه فكرة نسعى إلى استحضارها وتطبيقها في أعيادنا. فشعائر الحج، وعيد الأضحى محور الحديث، وغزّة والحرب الدائرة فيها وتفاعل عن المسلمين مع أحداثها هو التطبيق العملي لما يجب أن يكون عليه حال المسلمين في هذا العيد. وحيث إن المقام لا يتسع لكثير من التفاصيل، فسأقصر على بعض المفاهيم الأساسية، وبيانها على النحو الآتي:
تعظيم الحرمات والشعائر: إن المتتبع لسياق آيات سورة الحج يجد أن الله عزّ وجل بدأ بذكر البيت وتطهيره للطائفين والقائمين والركع السجود، ثم انتقلت الآيات للحديث عن أمثلة من بعض معالم الحج، كشهود الناس منافعهم في هذا الموسم، وذكر اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وفي هذا كناية عن الأضحية، إذ بها ينتهي الإحرام، وطواف الإفاضة بعد الوقوف بعرفات. وبعد الفراغ من تعداد هذه المعالم والشعائر في الحج أوجب الله علينا تعظيم الحرمات بقوله: ﴿ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦِۗ٣٠﴾، ومن ثم في الآيات التي تليها تعظيم الشعائر حيث قال: ﴿ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ٣٢﴾، ولفظ “ذلك” في الآية خبر لمبتدأ؛ أي فرضكم وواجبكم ذلك، أي تعظيم الحرمات والشعائر. فنرى أنه قدم تعظيم الحرمات (أي اجتناب المنهيات)، على تعظيم الشعائر (أي فعل المأمورات)، وإن كان كلاهما يدخل في الآخر ضمنا.
وبناء على ما سبق فالمطلوب من المسلمين الحُجّاج منهم وغير الحُجّاج، وهم يُقدِمُون على هذه الشعائر أن يستحضروا هذه الحرمات ويعظمونها، وأي حرمة أعظم من حرمة دماء أهلنا التي تُسال في غزة منذ تسعة شهور، وواجبُ تعظيم هذه الحرمة يستوجب العمل على نصرتهم من جميع الأفراد والجماعات والدول، وأن يعملوا على أيقاف شلال الدم النازف في غزة بكافة الطرق والأشكال والوسائل، فلا يجوز تجاهل القتل والإبادة والتدمير، ولا اعتياد مشاهد الدماء والأشلاء، ولا يجوز الاستمرار بحياتنا على نحو طبيعي وكأن الذي يجري لإخواننا لا يعنينا، فالشعور بإخوانك، ومقاسمتهم مصابهم أولى من إظهار مشاعر الفرح والغبطة والسرور والزينة في العيد، خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، فأي تعظيم للحرمات وأنت تمارس حياتك بشكل طبيعي، وأنت تضع صورك وصور أطفالك وأضحيتك وطعامك وشرابك وابتهاجك وسرورك ليراها من تقطعت أوصالهم، وفقدوا أحبتهم وعائلاتهم، وهجروا من بيوتهم، ويُتّم أطفالهم، وترملت نساؤهم!! وكل ذنبهم أنهم دافعوا عن أرض المسلمين ومقدساتهم.
إن الله لن يضيعنا… إلا إذا ضيعنا أمره فينا: في مشاعر الحج نستذكر نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما وضع زوجته هاجر، وابنه إسماعيل بأرض غير ذي زرع، لا ماء، ولا غذاء، ولا بشر فيها، فسألته هاجر: من أمرك؟ فقال: ربي أمرني. قالت: فإنه لن يضيعنا. تسليمًا وانقيادًا وطاعة واستجابة لأمر الله. فما لبثت حتى تفجر ماء زمزم، ونبت الزرع، وامتلأ الضرع، وتوافد الناس يأتون من كل فج عميق. هذه هي سنة الله في الأرض لمن استجابوا لأمره، ولبّوا نداءه.
وفي هذا العام، وباستحضار هذه المناسك، نستحضر حال فئة استجابت لأمر الله، وأعدت ما استطاعت من قوة ومن رباط الخيل، وخرجت تدافع عن مقدسات الأمة، ودينها، وأرضها، وثوابتها في طوفان تحدى كل قوى الظلم والجبروت في هذه الأرض؛ فقُتّلوا، وهدمت بيوتهم، وأخرجوا من ديارهم. إلّا أنهم لا يزالون صابرين على ما أصابهم، مرابطين في ثغورهم، ينتظرون وعد الله لهم بالنصر والتمكين: ﴿ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ٤٠﴾. ويقينهم بأن الله ناصرهم، وأنه لن يضيعهم.
الأضحية اختبار… فإما نصر، وإما اندثار: في يوم النحر وما يليه من أيام التشريق، لا بدّ أن نستحضر لحظة حاسمة في حياة سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، امتحان واختبار ليس كأي امتحان واختبار، فالممتحَن نبي الله إبراهيم عليه السلام، وموضوع الاختبار: أغلى ما يملك الإنسان في حياته… ابنه إسماعيل، والواجب لا يستطيعه إلّا من آمن بالله حق إيمانه، وامتلأ قلبه يقينًا وطاعة وخضوعًا لأوامر الله عزّ وجل، إذ كيف يُقدم إنسان على ذبح ابنه دون هذا القدر من التسليم والاستجابة لأمر الله! وعند لحظة التنفيذ تتجلى رعاية الله وتعلن النتيجة، وينزل الفداء بذبح عظيم، بقي شعيرة نمارسها إلى يوم الدين.
الأضحية والتضحية: في اللغة يجمعهما أصل واحد، ولكن الفرق بينهما في الواقع كبير، فالأضحية سنة مؤكدة لمن يقدر عليها، بينما التضحية في الدفاع عن الدين، والمقدسات، والأرض والعرض واجبة على كل مستطيع، وعليه فالذي يضحي بِكَبْشِهِ لا يستوي مع الذي يضحي بنفسه وأهله وماله، فالتضحية بالنفس والمال لا يعدلها شيء من الأعمال: ﴿۞أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ١٩ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ٢٠﴾.
الله أكبر من الطغاة والظالمين ومن أيدهم وسار في ركابهم: من سنن العيد التكبير، مطلقًا كان أو مقيدًا، وهنا علينا أن نستشعر أن الله أكبر وأعظم وأعزّ من كل هؤلاء الطغاة مهما عتوا في الأرض، وبغوا فيها، وقتلوا، وهجروا، فسنة الله فيهم معلومة، والله يمهل ولا يهمل، وأن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
العيد بين مظاهر الفرح… والشعور بمصاب أهلنا في غزة: في الحقيقة فإنه لا تعارض بين الشعور بمصاب أهلنا في غزة، وإظهار شعيرة من شعائر الدين الإسلامي بالاحتفال في العيد، وبيان ذلك يكون من خلال فهم فلسفة العيد في الإسلام، فالعيد ليس المقصود به ذات اليوم الذي يأتي بعد الوقوف بعرفة، وإنما ما يحتويه هذا اليوم من معان تجعل له أثرًا في حياتنا، لا مجرد يوم تطغى فيه مظاهر الثياب الجديدة على جوهر المعاني الفريدة.
إن فلسفة العيد في الإسلام قائمة على فكرة هادفة يتجلى فيها معاني الأخوة ووحدة الأمة، ويتحقق فيها الشعور الإيماني الروحاني والتضامن الأخوي الإنساني، وليس تقليدًا أجوف يُظهر بُعدا ماديًا وسلوكًا حيوانيًا لا يتجاوز حدود المظاهر الباهتة من الملابس الجديدة وأصناف المطعومات والمشروبات والحلويات، والتجول في الطرقات والمتنزهات. ومن أجل تحقيق هذه الفكرة أُمرنا بجعل نصيب من الأضحية للمحتاجين.
إن الشعور بالعجز الذي ينتاب كثير من المسلمين اليوم تجاه إخوانهم في غزة، يجب أن لا ينعكس برد فعل سلبي على مظاهر العيد لا يعود بالفائدة على أحد، فإنك بجلوسك عاجزًا في بيتك، أو بتجاهلك حال إخوانك؛ فإن ذلك لن يحقق لك فرحًا بالعيد، ولا نصرة لإخوانك، بل إن هذا الشعور يجب أن يكون منطلقًا للتغير، فأعياد المسلمين مصدر قوة متجددة للانبعاث من جديد، وقدرة على تغيير الأوضاع والأحوال، لا مجرد القدرة على تغيير الثياب وأصناف الطعام والشراب.
ففرحة العيد تكون بإدخال الفرح والسرور على قلب إخوانك هناك، وبأن تخلفهم في أموالهم وأولادهم وأزواجهم، فرحة العيد تكون بمساهمتك في رفع الظلم عنهم ومساندتهم كل بما يقدر عليه، فرحة العيد لا تكون إلا بحضورهم معك وحضورك معهم في كل جزء من أجزاءه، فإن كنت خطيبًا للعيد فاجعل الحديث عن واجب الأمة تجاههم أولى أولوياتك، وإن لبست الجديد فاجعل لهم من مثله نصيبًا من ثيابك، وإن أكلت الثريد فتصدق بمثل ثمنه عليهم من مالك، والزم الأدب على مواقع التواصل، فلا تنشر صور اجتماع الأحباب، ولا مظاهر الطعام والشراب؛ فإن قلوبهم منهكة بألم الفقد، وبطونهم فارغة من شدة الفقر، وأبدانهم متعبة، وبيوتهم مهدمة، وحالهم لا يخفى على أحد.
وعليه فإن شعيرة العيد بهذا الفهم عند المسلمين تعبر عن مظهر من مظاهر الوحدة الإسلامية بشكل إيجابي حيث لا تعارض بينهما، والمطلوب هو استثمار هذه الشعيرة لتغيير حالهم للأفضل، لا أن نقعد عاجزين لا نحرك ساكنًا، والمطلوب أن ندخل الفرح على قلوبهم لا أن نبقى في حالة حزن سلبي معهم. فمجرد الشعور بالحزن دون العمل على التغيير لا يجدي نفعا ولا يبدل واقعًا و “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم“.
تصنيفات : قضايا و مقالات