طواف حول فقه مقاصد الحج، د. جهاد شحادة
يونيو 18, 2024
للمشاركة :

إن العبادة في الإسلام تمثل الذروة في حياة المسلمين؛ لذلك فقد جعلتها الشريعة أركاناً للإسلام لا يصح إلا بها، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (‌بني ‌الإسلام ‌على ‌خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)، وهذه العبادات هي جزء من حياة المسلم وواقعه، ولا تنفصل عن حياته، ومن يتأمل في العبادات يجد أنها زيادة على التعبد لله وطاعته، وامتثال أمره، تركز على صورة الجماعة في حياة المسلم وأهميتها، وإن من أعظم مصائب المسلمين في وقتنا الحاضر هو قصر العبادات في شكلها وصورتها، دون التأمل والتفكر في معانيها ومقاصدها التي أرادتها الشريعة الحنيفة.

فاستواء الصفوف في صلاة الجماعة يهدف – زيادة على عبادة الصلاة- إلى صناعة المجتمع المسلم من خلال التركيز على ترابط المسلمين ووحدتهم، وإبراز انسجامهم وانضباطهم(1)، وتربيتهم على هذه المعاني ليكونوا كالمجاهدين الذين يقفون في صف المعركة، قال تعالى:” إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ ‌صَفّٗا ‌كَأَنَّهُم بُنۡيَٰن مَّرۡصُوص” [الصف: 4]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركز على هذه المعاني فيمسح مناكب المصلين ويسويها بعد إقامة الصلاة، ويقول: (استووا ولا تختلفوا؛ فتختلف قلوبكم) [صحيح مسلم، 1/323].

والصيام من مقاصده أن يقوم المسلم بواجبه نحو مجتمعه من تكافل وإغاثة للمحتاجين والمعوزين، فهو يجعل المسلم يستشعر جوع أخيه المسلم، فيدفعه ذلك إلى الإكثار من الصدقات وإطعام الجائعين والمعوزين(2)، لذلك فقد شرعت فيه أيضاً صدقة الفطر التي تعطى للفقراء والمحتاجين.

وأما الزكاة فهي دالة بنفسها على مقصدها، فهي عبادة مالية اجتماعية، تربي المسلم على أنه جزء من هذا المجتمع، سواء كان فقيراً أو غنياً، فإن كان فقيراً فإنه يستشعر أنه جزء من المجتمع لأنّه لم يتركه فريسة الجوع والعوز، وإن كان غنياً فإن الشريعة تشعره أيضاً بأنه جزء من المجتمع فتضع عليه التزاماً تجاه أفراد مجتمعه ليقوم بواجبه في تقوية أواصر هذا المجتمع ورأب صدعه، وسد خلته، قال تعالى:”وَٱلَّذِينَ فِيٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ ‌حَقّ ‌مَّعۡلُوم (٢٤) لِّلسَّآئِلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ ٢٥” [المعارج: 24-25].

واخيراً الحج، فإنه عبادة تأخذ الصبغة الجماعية، فكل الحجيج يؤدون مناسكهم في آن واحدٍ معاً، ويقفون في صعيد واحد، معلنين بشعائرهم ومشاعرهم أنهم أمة واحدة، ويدٌ واحدة، لا تفرقهم البلاد والحدود، ويختلطون ببعضهم أثناء أداء مناسكهم، فيتعارفون فيما بينهم، ويستشعرون هموم بعضهم، ويستكشفون مراكز قوة هذه الأمة وارتباطها وانضباطها، وتناغم أفرادها(3).

لكل ذلك فإن قصر فهم العبادات على أداء الشعائر التعبدية، دون فهم مقاصدها وحِكَمها، هو إجحاف بحقها، كما هو إخلال بفهم المسلم لشريعته الربانية، ولدوره في الاستخلاف المناط به على وجه البسيطة.

وإذا كانت فريضة الحج – التي نعيش شعائرها هذه الأيام- تبرز لنا وحدة المسلمين، وتنمي فيهم معاني الأخوة والترابط، وتجلّي المساواة بينهم في أوضح صورة وأتمها، وتشدّد على حرمة دمائهم وأعراضهم، كما جاء في خطبة حجة الوداع عن النبي صلى الله عليه وسلم: عندما سأل الحجيج: (أتدرون ‌أي ‌يوم ‌هذا؟). قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكتَ حتى ظننّا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: (أليس يوم النحر؟). قلنا: بلى، قال: (أي شهر هذا؟). قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: (أليس ذو الحجة؟). قلنا: بلى، قال: (أي بلد هذا؟). قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: (أليست بالبلدة الحرام). قلنا: بلى، قال: (فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت)[صحيح البخاري: 2/620. صحيح مسلم: 3/1306]، وإذا كانت دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة فيما بينهم، فإن حرمتها من غيرهم أشد وأعظم، فكما لا يصح أن يعتدي مسلم على أخيه المسلم ولا على ماله ولا على عرضه، فلا يجوز للمسلم أن يقبل أن يعتدي أعداء المسلمين على آحاد المسلمين، فكيف بالاعتداء على مئات آلاف المسلمين، من اعتداء على الأنفس والأموال والأعراض، وانتهاك لكل الحرمات، وغير ذلك من تجويع وحصار، ألا يتناقض هذا مع مقاصد الحج وغاياته.

ومن جانب آخر، هذه الكعبة التي يطوف الحجيج حولها ثلاث مرات وأكثر، خلال أداء مناسك الحج، أليست حرمة المسلم من حرمتها؟، ألا يعتبر هدم الكعبة حجراً حجراً أهون من قتل امرئ مسلم؟ وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة، ويقول: “(ما ‌أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه)[سنن ابن ماجه، 404، ط إبداع](4)، فما بال الكثير من أبناء المسلمين يطوفون حول الكعبة، وكأنه لا دماء في غزة تراق، ولا أموال تنهب وتدمر، ولا أعراض يعتدى عليها؟!

إنّ عزل العبادات – وخاصة فريضة الحج – عن دورها ومقاصدها في بناء المجتمع المسلم، وفي صناعة أفراده؛ يفرغ العبادة من مفهومها التربوي والحضاري، ويجعلها حبيسة جانبها التعبدي الفردي، الذي لا نقلل منه، ولكنه ليس هو الجانب الوحيد، ولا الجانب الأهم للمجتمع المسلم، ولا هو الجانب – أي التعبدي الفردي-  الذي تنهض به الأمة، وتعالج به مشكلاتها، وتنفي به خبثها، وتداوي به أمراضها، وتنصر به مظلومها، وتعين به ضعيفها.

إن غزة وفلسطين اليوم، وكذلك السودان، وغيرها من بلاد المسلمين التي تعاني من العدو الخارجي، والاحتلال الغاصب، أو من الاقتتال الداخلي وحرب الإخوة والصراعات فيما بينهم، تحتاج إلى هذا المفهوم الحضاري والتربوي للحج، فهي تحتاج إلى أن تطوف الأمة حول دينها وعقيدتها ومبادئها، فلا تقبل بالأفكار الوافدة، والمبادئ الهدامة، والأخلاق الفاسدة المفسدة. تحتاج إلى أن تكون في صعيد واحد، كما يكون حجاج بيت الله في صعيد عرفات، فلا تسمح لأحد بالاستفراد ببعضها، فإذا اعتدي على بعضها وناداها مستغيثاً أن تجيبه: لبيك، لبيك. تحتاج إلى نفير الأمة جمعاء، كما ينفر الحجيج جميعاً من صعيد عرفات، فتنفر ضد أفكار التبعية والضعف، وتنفر ضد عدوها المتربص بها، والذي يستغل ضعفها ووهنها. تحتاج إلى أن ترجم دعوات الفتنة والفرقة بجمرات الوحدة والأخوة الإيمانية، وترجم دعاة الباطل والأهواء بجمرات الحق والاتباع.       

فهل نتقن فقه مقاصد الحج كما نتقن أداء مناسكه؟!

تصنيفات :