كانت الهجرة في بداية الإسلام واجبة في حق المسلمين نصرة لدينهم ورفعًا لراية الحق وحماية لهم، فهاجر الرسول ﷺ ومن آمن معه من الصحابة رضوان الله عليهم إلى المدينة، وبعد تحقيق ما هاجروا من أجله عاد رسول الله ﷺ ومن معه إلى مكة في مشهد عظيم في السنة الثامنة للهجرة ألا وهو مشهد فتح مكة، فخطب ﷺ بالناس، ومن أهم ما روي عنه ﷺ (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية واذا استنفرتم فنفروا) متفق عليه ، وعند النظر إلى هذا الحديث نرى أن النهي كان عن الهجرة من دار الإسلام إذا أمن المسلم على دينه ونفسه فيها، فالهجرة من مكة إلى المدينة كانت بسبب الإيذاء وعندما انتهى ارتفع الحكم، فالهجرة في الحديث هي الانتقال من مكة إلى المدينة بعد الفتح.
ومع انتهاء الهجرة المعروفة في ذلك الوقت وما كان لها من أجر عظيم ورتبة سامية تميز بها الصحابة عن غيرهم إلا أن رسولنا الكريم ﷺ ترك لنا ما يعادل ذلك الأجر العظيم ألا وهو الجهاد والنية؛ ففي الشطر الثاني من الحديث أشار إلى إمكانية تحصيل ما فات من فضل الهجرة بالجهاد والنية الصالحة، وهذا ما أشار إليه الإمام النووي في شرحه للحديث، وفسر علماء آخرون الحديث بقولهم: إن الهجرة المنقطعة هي الهجرة من مكة إلى المدينة أما الهجرة من أجل الجهاد أو النية الصالحة كالهجرة لطلب العلم أو لنصرة الدين وغيرها فهي باقية ليوم القيامة، ويستدل على ذلك ما ورد عن الرسول ﷺ: ” لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل”(مسند أحمد)، وقوله في نص آخر: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة”(مسند أحمد)، وهي دلالات واضحة على أن الهجرة إن كانت للهدف السابق نفسه كالنجاة بالدين لمن أسلم وخشي على نفسه من الهلاك فهي واجبة لقول الله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا” [النساء: 97].
ومن الأدلة أيضاً على أن الهجرة لم يقفل بابها حث الرسول الصحابة بالخروج من المدينة إلى بلاد الشام ما ورد عن ابن حوالة قال: خِر لي يا رسول الله إن أدركت ذاك، قال: ” عليك بالشام، فإنه خيرة الله من أرضه، يجتبي إليه خيرته من عباده، فإن أبيتم فعليكم بيمنكم” (مسند الامام أحمد)، وقول رسول الله ﷺ “: “إنها ستكون هجرة بعد هجرة، ينحاز الناس إلى مهاجر إبراهيم” (مسند أحمد).
من الجدير بالذكر أن رسول الله ﷺ أشار في العديد من الأحاديث إلى التوجه إلى بلاد الشام وإلى فضل ذلك المكان، ولا يكون التوجه إلى تلك البلاد إلا بالهجرة ولو كانت الهجرة غير جائزة لما حثهم على ذلك حتى لو كانت تلك البلاد ذات فضل عظيم، وهذه الأحاديث غير محددة بزمان فتحمل على كل الأزمان والأوقات فمن استطاع أن يهاجر إلى تلك البلاد فليفعل، وإنما خص الرسول ﷺ هذه البلاد لمعرفته بأطماع الطغاة والحاقدين للسيطرة عليها، وهذا ما تأكد في هذه الأيام، فنرى محاولاتهم بقتل سكان هذه المناطق للسيطرة عليها بالكامل وهنا يجب علينا الإشارة إلى النصف الثاني من الحديث وهو الجهاد والنية الصالحة؛ فأما الجهاد فهو واجب في حق كل مسلم قادر عليه إن حتلت أرض من بلاد المسلمين وها قد احتلت فلا نغفل عن فضله الذي يعادل الهجرة في زمن الرسول ﷺ، ويكون بمحاربة المحتلين بكل ما أوتي المسلم من قوة وقدرة كالقتال أو المقاطعة لهم ولكل من يساندهم (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..)، وكل من يفعل ذلك له أجر عظيم، وأما النية الصالحة فتتحصل هنا بنية الرباط في هذه البلاد كي لا يتمكن الاحتلال من السيطرة على قدر أكبر منها.
وفي النهاية لا بد من الإشارة إلى أن مفسري الحديث -المجمع على صحته- قد أشاروا إلى أن الجهاد والنية الصالحة (كالرباط) تصل إلى أجر الهجرة مع الرسول ﷺ فلا يغفل أحدنا عن هذين البابين خصوصًا ومع معرفتنا لما يتعرض له المسلمون من اضطهاد وظلم وقتل فالله الله لمن اغتنم هذه الأبواب.
تصنيفات : قضايا و مقالات