لقد مرت تلك الأيام العظيمة والمواسم الإيمانية الجليلة بخيراتها وبركاتها، وعاد الحجيج إلى أوطانهم فرحين بما آتاهم الله من فضله مستبشرين بما من عليهم من توفيقه وحج بيته، عادوا وقلوبهم مليئة بالإيمان بعد أن ذاقت لذة التوحيد وحلاوة المناجاة، عادوا بميلاد جديد، وعهد سعيد، وصفحة نقية لا ذنب فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: “منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ”، فحرص الحاج على بداية جديدة بعد عودته من ديار الشوق، دليل على كمال عقله، وصحة فهمه للدين وفرائضه، وإمارة للحج المبرور، فقد سئل الحسن البصري رحمه الله ما الحج المبرور؟ قال: “أن تعود زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة”، وإن من قلة البصيرة أن يظن المرء أن مواسم العبادة مراحل يتخفف فيها من ذنوبه ومعاصيه، فإذا تجاوزها تنتهي فترة إقباله على الله، وعاد ليواقع غيرها من المعاصي.
فإلى كل من أقبلوا على البقاع المطهرة، وعاشوا تلك الأيام بلذتها وصفائها، وجاهدوا أنفسهم قياما بهذه الطاعة العظيمة، لا تكونوا كالتي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثا بهدم ما بنيتم، بل أوفوا بعهدكم وحافظوا على توبتكم.
كما ويعد الحج مدرسة تربوية نستقي منها دروسا وعبرا لابد أن تستقر في الأذهان، لتترجم إلى واقع عملي، يحمل الأمة على الاستقامة والثبات، ويعيدها إلى حقيقة العزة والرفعة، فما أحوجنا اليوم ونحن نمر بمنعطفات وضعف، أن نتعلم من عبادة الحج كيفية مواجهة التحديات التي تعصف بقضايا الأمة، وعلى وجه الخصوص قضية الإسلام الأولى وهي (قضية فلسطين)، لتبقى حية فلا تموت، وقوية فلا تضعف، ومشتعلة فلا تنطفئ، وهذا واجب ديني وأخلاقي على كل المسلمين، لذلك أود أن أعرض بعض اللمحات حول فلسفة الحج، ومدى تأثيره في نصرة القضية الفلسطينية على النحو الآتي:
أولا: وحدة الأمة:
جاءت فريضة الحج لتؤكد على وحدة الأمة الإسلامية، قال تعالى: “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ”، وذلك حينما يقصد الحجيج الديار المقدسة من مشارق الأرض ومغاربها، في وقت واحد، وعلى هيئة واحدة، ويؤدون منسكا واحدا، فتجتمع هناك القلوب، وتذوب الفوارق، وتوحد الشعارات، فإن هذا المشهد المهيب يبعث في النفوس الأمل بأن تعود الأمة صفا واحدا، تنطلق من مشكاة واحدة، ويذكر هذا المقام بأن ما أصاب هذه الأمة من ضعف واستكانة أصابها بسبب الفرقة والانقسام، وأن ما يحدث في الأرض الطيبة المقدسة من اعتداءات وتقتيل وتشريد، فيباد شعب بأكمله، ويشرد عن وطنه، وتنتهب خيراته، وتستباح حرماته، فلا تكاد تسمع منكرا، أو تجد ناصرا، كان نتيجة خلافات أذهلت العقول وعمت البصائر، حتى اعتصرت القلوب كمدا من شدة الحسرات والألم، وهذا ما يدعونا أن نتخذ من الحج منطلقا لنصحح مسار حياتنا، ونعيد وحدة أمتنا، حتى نكون بحق خير أمة أخرجت للناس.
ثانيا: الأخوة الإنسانية:
تحقق لنا مناسك الحج التربية الاجتماعية المتكاملة على أسس فاضلة من المحبة، والتعاون، والمواساة، فيجد الحاج نفسه منضما إلى مجموعة الحجيج، ولا يستطيع الفكاك عنها سواء كان ذلك في تنقلاته بين المشاعر، أو في حله وترحاله، وذلك خوفا على نفسه من الضياع والشتات، وهذا هو الارتباط وتلك هي الأخوة العالمية للمسلمين التي ارتضاها الله عز وجل لعبادة، إذ قال تعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ”، وأكد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “المؤمن لِلْمؤْمن كالبُنْيان يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضا”، وبناء على ذلك يجب أن يسارع المسلمون في نصرة إخوانهم المستضعفين في فلسطين، ونعني بالنصرة تلك الغيرة الإيمانية التي تدفع المسلمين إلى رفع الأذى والظلم عنهم، ومد يد العون لهم، و مواساتهم سواء بالدعم المادي أو المعنوي وذلك بالتعرف على أخبارهم، ونشر قضيتهم، والمطالبة بحقوقهم، ومعايشة آلامهم وآمالهم، كل مسلم بحسب قدرته، وعلى قدر الإيمان تكون المواساة كما قال ابن القيم رحمه الله: “على قدر الإيمان تكون هذه المواساة فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة وكلما قوي قويت”، فإذا ضعف الإيمان أصبح المرء حبيس مصالحه ومنافعه الشخصية، لا يرى غير نفسه، ولا يشعر بما يحل بإخوانه من مصائب ونكبات، فهو معزول عنهم، ولا يهتم بشؤونهم، ولا يريد أن يشارك في نصرتهم أو حتى أن يتألم لآلامهم، وعلينا أن نعلم أن ثبات أهل فلسطين هو ثبات للأمة، وأن خذلانهم والتقاعس عن نصرتهم إثم جسيم وخطر على الأمة في دينها ودنياها.
ثالثا: النصر مع الصبر:
تتجلى في فريضة الحج التربية الجهادية عبادة ترويض النفس على الصبر، وتحمل المشاق، فالصبر خلق عظيم، وأعظم ما يكون في الجهاد والرباط في سبيل تحرير فلسطين والدفاع عنها، فصبرا أهل غزة فلا حياة ولا نصر إلا مع الصبر، واحذروا من القنوط وإن أبطأ الفرج وتأخر النصر، فالليل مهما طال فلابد من بزوغ الفجر، وإن سبحات النصر آتية بالبشرى القريبة بإذن الله.
تصنيفات : قضايا و مقالات