خطورة اللسان .. في ظلال حديث معاذ رضي الله عنه، د. موسى البسيط
مارس 16, 2022
للمشاركة :

في ظِلالِ حَديثِ مُعاذٍ رَضيَ اللّه عنهُ

خُطورَةُ اللّسانِ

كم لهذا اللسان من آفاتٍ، وكم له من آثارٍ؛ صَغيرٌ جِرمُه، كَبيرٌ جُرمه، حذّر الشارعُ الحكيمُ من أخطارِه، وأوْعد بالنيرانِ على عدمِ صيانتِه، وَوَعدَ بالجِنانِ مَن حَفِظَه وصانَه قال تعالى (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، وقال رسولُ الله ﷺ «مَنْ يَضْمَنْ لِي ما بين رجليه، وما بين لحْيَيه أَضْمَنْ له الجنة».[1]

إنّ اللّسان تُرجمان القلوبِ والأفكارِ، وهو آلةُ البيان؛ من لَجَمَهُ بلجامِ الشَرع أفلحَ ونجى، ومَن أطلقَهُ من عقالِه أرداه المهالكَ قال رسول الله ﷺ لمعاذ ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أو قالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِم- إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)). [2]

تأملاتٌ في حَديثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ :

معاذُ بنُ جَبَل الصحابيُ الجليلُ صاحبُ الهمّة، السّاعي إلى بلوغِ القمّة، يسألُ عمّا يوصلُه إلى الجنّة ويباعدُه عن النارِ من الأعمال؟ وهنا يقدّر له رسول الله سؤالَه فيقول له : ” لقد سألتَ عن عظيم”! إنه الهدفُ الأعلى والغايةُ الأسمى، ولكنْ مهما تكن الأهدافُ عاليةً؛ فإنها، بعون الله، سهلةٌ يسيرةٌ قريبةٌ، وهكذا ينبغي أن يَحتَضنَ المربّي المواهِبَ، ويُنَمّي المَهاراتِ ويُعَزّز الطَاقات.

إن الطريقَ إلى ما يصبو إليه معاذٌ يكمنُ في: تحقيقِ العبوديةِ لله وحدَه لا شريكَ له، فاللّه تعالى غنيٌ عن الشرك، لا يقبلُ من العبد إلا ما كان خالصاً (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) [البينة: 5].

ثم أرشد الرسولُ ﷺ معاذاً إلى باقي أركان الإسلام: تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، كلّ ذلك متبعاً فيه رسولَ الله ﷺ، محققاً آثارَ هذه الأركانِ وحِكَمَها وغاياتِها في واقع الحياة .

ثم يلفتُ رسول الله ﷺ نظرَ معاذٍ ويشوّقُه إلى ما يوصلُه إلى الغاية العظمى فقال له: “ألا أدلك على أبواب الخير“،الأبواب التي إنْ أدْمَن طرْقَها؛ دخلَ منها إلى الجنان، أولُ هذه الأبواب: باب الصيام، والصيامُ جُنّةٌ للعبدِ من المعاصي والانحراف في الدنيا، وجُنّةٌ للعبد من النار في الآخرة “ من صام يوما في سبيل الله تعالى باعده الله من النار سبعين خريفا“.[3]

وثاني أبوابِ الخيْر : صدقة التطوع؛ فكمْ للصدقة من فوائد ! وكم يَجْني المتصدقُ لها مِن الثِمار! بها تُكفّرُ الذنوبُ، وتُمحى الخطايا، وهي تُطفئ غضبَ الرب، ويكون الإنسانُ في ظل صدقتِه يومَ القيامة، وفي الدنيا يتحقق للعبد بها تيسيرُ الأمورِ، وتفريجُ الكروبِ، وتزكيةُ النفسِ.

وثالث أبواب الخير: بابٌ هو شرفٌ للعبدِ في مرضاةِ الربِ جلّ وعلا ، والناس نيام؛ يؤْثُر لذةَ مناجاةِ ربه على النوم في الفراشِ الدافئ الوثير ؛ قال تعالى ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة: 16].

والمربِّي إذا أنِسَ في المُريدِ استعداداً للتلقي، وطمعاً في المزيد؛ حقّق رغبتَه وأعطاهُ ما يُشبِعُ نهْمَتَه ؛ وهنا يشوّقُ الحبيبُ ﷺ حبيبَه قائلاً: (ألا أخبرك برأسِ الأمرِ وعمودِه وذروةِ سنامه؟!)، ما أعجبها مِن بلاغة! حين يشبّه الإسلامَ بالرأس مِن الجَسد، فماذا يبقى للجسد إن ذهبَ رأسُه؟ وكذا دينُك يا عبدَ الله! رأسُ الأمر “الإسلام”.

وعموده الصلاة؛ فلا يقومُ البيت إلا بعمودِه؛ إنها أعظمُ أركان الإسلام بعد الشهادتين، بل فيها أركان الإسلام كلِّها، إذا أقامها العبدُ أقام الدينَ، وإذا أضاعَها هدَمَ الدين .

وذروة سنام الأمر الجهاد؛ إنها منزلة الجهاد من الإسلام فيرتفعُ على سائر الأعمال، وبغير الجهادِ لا يَعلو شأنُ الدين، ولا يتحقق للأمة مجدٌ ولا عزّةٌ؛ فما أعظمَ مكانتَه وأجزلَ ثوابَه اقرأ قوله ﷺ:” مُقَامُ أَحَدِكُمْ – يَعْنِي فِي سَبِيلِ اللهِ – خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَحَدِكُمْ فِي أَهْلِهِ سِتِّينَ سَنَةً، أَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ، وَتَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ”[4].

“اللسانُ” مِلاكُ الأمرِ كُلّه

وهنا يأتي دورُ اللّسان في حفْظ منظومة الأعمال وصيانتها عما يُخلّ بها أو يُضيّعُها ؛ إذْ باللّسان يتلفظ ُالمكلّفُ بكلمةِ التوحيد، وبه يتلو آياتِ القرآن، وبه يَذكرُ الله ويدعوه، وهنا يقول النبي ﷺ لمعاذ :” ألا أخبرك بملاك ذلك كلّه؟”، والمقصودُ بالْمِلَاكُ مَا بِهِ إِحْكَامُ الشَّيْءِ وإحسان صنعته أَوْ تَقْوِيَتُهُ، ويشير النبي ﷺ بذلك إلى ما تَقُومُ بِهِ تِلْكَ الْعِبَادَاتُ جَمِيعُهَا؛ فهداه إلى حفظ اللسان وإمساكِه، ففيه من المعاصي ما يُهلك صاحبَه، ويكبّه في النارِ على وجْهه، ويا لها من بلاغةٍ نبويةٍ ( وهل يكب الناس على وجههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟) شَبَّهَ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْإِنْسَانُ بِالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ بِالْمِنْجَلِ، فَكَمَا أَنَّ الْمِنْجَلَ يَقْطَعُ وَلَا يُمَيِّزُ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ وَالْجَيِّدَ وَالرَّدِيءَ، فَكَذَلِكَ اللِسَانُ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْكَلَامِ حَسَنًا وَقَبِيحًا.

إنّ معاصي اللسان كثيرةٌ مِنْ كفرٍ بالله وشركٍ به، وقولٍ على الله بغيْر علمٍ، والغِيبة والإفك والبهتان، واللعن والشتم والانتقاص والسخرية، والكذب، والكلام بالباطل والسكوت عن الحق، وشهادة الزور وقولِ الزور، واليمين الكاذبة، والقذف، والحلْف بغير الله تعالى؛ كلُّ ذلك عاقبتُه وخيمةٌ وعذابُهُ شديدٌ.

إذنْ وجبَ إمساكُ اللسانِ وحبسُه إلا فيما يُرضي الله؛ مِن ذِكْرٍ له، ونُصْحٍ وإرشادٍ، وتعليمٍ، وأمرٍ بمعروف ونهيٍ عن منكر، وتصدّقٍ بالكلمةِ الطيبة،وقولِ الحق وشهادةِ الحق.

الكلمةُ لا يستهان بأمرها؛ فكمْ للكلمةِ مِن أَثَرٍ تُحدثُه في الفردِ والجماعةِ ! وكم بسببها تقعُ الجرائمُ وتُسفكُ الدماءُ وتُنتهك الأعراضُ وتُفككُ الأُسُر! ومِن أخطر آثار الكلمة على المُجْتمعِ بل وعلى الأمّة كلّها: الحملاتُ الإعلاميةُ التي تُمارِسُ غَسيلاً للعقول؛ بقدْرٍ كبيرٍ من الكذبِ والدجلِ والتدليسِ، وقلْبِ الحقائق، من أجْلِ تمريرِ المخططاتِ الشيطانيةِ.

هذا هو اللسان مِلاكُ جميعِ الأعمالِ، وهوَ الضامنُ لاستقامَتِها وقَبولِها.


[1] رواه البخاري 11 / 264

[2] أخرجه الترمذي رقم (2619) وقال : حسن صحيح

[3] رواه الترمذي رقم (1622) ، والنسائي 4 / 172 و 173 والحديث صحيح.

[4] أخرجه أحمد ( 9762 ) والترمذي (1650)

تصنيفات :