وقفت ملياً في أثناء تحضيري لرسالة الدكتوراه عند موقف الخليفة الراشدي الأول: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو يُمد جيش خالد بن الوليد برجل واحد هو: القعقاع بن عمرو التميمي، وذلك بعد عن انفض عن خالد جنده معللاً ذلك؛ بأنه لا يهزم جيش فيه مثل هذا! دهشت كما دهش الصحابة آنذاك، وتعجبت أكثر لتفضيل “صوت” القعقاع في المعركة على ألف رجل!
فقد حُكي في كتب التاريخ الكثير عن بأس القعقاع وبسالته في قتال المرتدين وفي ذات السلاسل والقادسية وغيرها، لكن لم أدرك حقاً ما سبب تفضيل صوته على ألف مقاتل، حتى شاء الله لنا أن نعيش الطوفان لندرك أن صوت رجل ملثم واحد خير من أمة لا ألف!
ندرك اليوم أن هذه الأمة المكلومة لم تعدم صوت القعقاع! فصوته ما زال فينا حياً يخلع قلوب المنافقين والكفار وهو يتحدث عن أثر عبواته وقاذفاته، ويشعل في قلوبنا أملاً وعزاً كان قد خبى منذ 75 عاماً، يحمل لنا في موجاته الصوتية استشرافاً لنصر آتٍ.
صوت واحد ما أن يصمت إلا ويبدأ طوفان التحليلات، ثم تشتد وتيرة التمحيص:
فمن الناس من يستمع لصوت قعقاعنا مفتخراً بحصيلة الإنجازات المذكورة في خطابه، متعجباً من فرط إيمانه، وجزالة ألفاظه، وقوة مخارجه، لسان حاله يا ليتني معهم فأفوز فوزاً عظيما.
ومن الناس من يستمع لصوت قعقاعنا: يا معشر المسلمين باشروهم بالسيوف فإنما يحصد الناس بها، فيتقوى قلبه ويشتد عضده ويعزم النية على وجوب الجهاد ويمضي.
ومن الناس من يستمع لصوت قعقاعنا فما يزيده ذلك إلا عتواً وظلماً وخذلاناً، فلا يملك إلا محاولات فاشلة مقيتة للاستخفاف به وصرف الناس عن الحق وتثبيطهم، تجده مذبذباً بين ذباب الأفكار محتاراً أي تهمة هي الأخسّ ليرميه بها، تضخيم الأفعال؟ أم تكذيب الأقوال؟ أم لعله أنه لا يتحدث من باطن الأرض بل من عال! وهذا والله لن يزيده الله إلا مقتاً واستدراجاً ثم لا يفلته!
ومن الناس من يستمع لصوت قعقاعنا فيدرك أنه أصدق من قادته، فما يزيده الصوت إلا احتراما.
ومن الناس من يستمع لصوت قعقاعنا فيدب في قلبه الذعر ويُحدّث نفسه بأنه مُدِك لصياصيّهم لا محال، وبأنه سيملك ما تحت أقدامهم قريباً.
حتى أنني لأعجب من أناس من العجم قد انجذبوا وشغفوا باللغة العربية فقط لسماعهم لصوت قعقاعنا دون أن يعوا ويفهموا مضامين خطاباته!
ومن غرائب ما حُكي أن كتيبة القعقاع كانت تسمى “الخرساء” وكأن شجعانها أدركوا أن صوت القعقاع خير من ألف رجل فصمتوا، أو كأنهم نصبوه ناطقاً رسمياً فبه اكتفوا!
فاللهم بارك لنا في قعقاعنا وزد صوته سلطاناً وشكيمةَ وبأسا.
تصنيفات : قضايا و مقالات