إن لله عز وجل سننا كونية في الكون، يجري فيها أمره ومشيئته على الكون والأمم، بمقتضى مشيئته وعدله[1]، قال تعالى:” سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً”[2]،
فمن عمل على تطبيق هذه السنن على نفسه ومجتمعه، سيرتقي ويتقدم، ومن أغفل هذه السنن شقي وتعس وأصيب بالتخلف والكسل والدونية، سواء على مستوى الأفراد أو الأمم والشعوب.
من هذه السنن في الكون:
سنة الاختلاف، وسنة التدافع والتداول، وسنة التغيير والاستبدال، وسنة الصراع بين الحق والباطل وهي السنة التي سنسلط عليها الضوء قليلا في هذا المقال.
وجد الصراع بين الحق والباطل منذ خلق آدم عليه السلام، عندما رفض إبليس السجود لآدم، وهذا الصراع مستمر إلى قيام الساعة.
قال إبليس عندما رفض السجود لآدم عليه السلام:” قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ”[3].
عندما نستقرئ هذه السنة الكونية في الصراع بين الحق والباطل؛ نجد أن من يرفع لواء الحق في هذا الصراع: الأنبياء والمرسلون ومن سار على هديهم، وأن من يرفع لواء الباطل إبليس وجنده في كل زمان ومكان، قد يكون هذا الصراع موجوداً على مستوى الأفراد أو الجماعات، وقد يكون صراعا عاما مركزياً على مستوى الكرة الأرضية.
ومن حكمة الله أحيانا أن يكون انتفاش الباطل كبيراً وعظيماً، والحق مقهوراً ومظلوماً، وذلك لحكم ربما تخفى على أصحاب الحق، قال تعالى:” مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ”[4].
لكن هذا الانتفاش والعظمة لا تدوم لأهل الباطل لأن الله وعد بنصر الحق في الدنيا والآخرة:” إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ”[5].
يقضي الله تعالى بقدرته أمرا ما لينهي هذا الباطل وسطوته، وينصر الحق وأهله، وسيبقى حملة هذا الدين والمدافعون عنه موجودين في كل زمان ومكان، كما أخرج مسلم في صحيحه: من حديث جابر بن سمرة، رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:” لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ”[6]؛ لذا فالصراع العام المركزي كان وسيكون في الأرض إلى قيام الساعة، ولكنه بين مد وجزر.
إن أول هذه الحلقات في الصراع بين الحق والباطل كانت مع سيدنا نوح عليه السلام الذي دعا قومه 950 عاماً، وعندما يأس من إيمان قومه دعا الله تعالى:” فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِر”[7]، فأغرق الله الأرض ومن عليها بطوفان عم وطم ونظف الأرض من الشرك والأصنام.
“فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ”[8]. وهكذا محق الله الباطل في زمن نوح عليه السلام وأنهاه.
ثم ثاني هذه المواجهات كانت مع سيدنا ابراهيم عليه السلام حينما كان المؤمن الوحيد في زمنه على وجه البسيطة } إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)[9]{ . فانتشر الشرك وعبادة الأصنام، وكانت قصة الإلقاء في النار حتى تجلّت عناية الرحمن، } قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)[10] {. ونصر الله نبيه إبراهيم عليه السلام وانتشر التوحيد وتمت إعادة بناء بيت الله الحرام، وظهر شعاع الإسلام من أطهر بقعة على وجه البسيطة وأفضلها، وارتفع صوت الأذان بالحج: } وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)[11] {. وانتشر التوحيد في الأرض ولكن سنة الله أن يبقى الصراع موجودا، فكانت ثالث هذه الحلقات في هذا الصراع مع سيدنا محمد ﷺ إذ سبق بعثته انتشار فوضى الشرك والكفر في أرجاء المعمورة بأشكاله وألوانه كافة، فمن عابد للصنم إلى عابد للنار وإلى عابد لإنسان كما جعلوا من العزير وعيسى ابن مريم أبناء لله: }وَقالَتِ اليَهودُ عُزَيرٌ ابنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارَى المَسيحُ ابنُ اللَّهِ ذلِكَ قَولُهُم بِأَفواهِهِم يُضاهِئونَ قَولَ الَّذينَ كَفَروا مِن قَبلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنّى يُؤفَكونَ (30)[12] {.
فتصدى رسول الله ﷺ للمشركين واليهود والمنافقين، وحمل راية الحق والنور المبين، فكانت بعثته نوراً وهدايةً وإعادة الدين إلى سكته الصحيحة لينطلق حملة الإسلام في الأرض مبشرين ومحاربين للظلم وفساد العقائد، يواجهون الباطل وينتصرون عليه.
حتى كانت الحلقة الرابعة في هذا الصراع تتمثل بما نعيشه اليوم إذ عاد الباطل منتشياً وقاهرا للحق، فتم إنهاء الحكم والخلافة الإسلامية، في سابقة من تاريخ الإسلام، فبدأ انتشار الظلم، وفساد العقائد، والانحلال الأخلاقي، والمثلية الجنسية وإباحة الإجهاض، وفساد الأنظمة، وانتشار الحروب وسيطرة اليهود على المال والإعلام والسياسة في العالم، وفرضوا سيطرتهم على مقدسات المسلمين في فلسطين وبيت المقدس ومحاولة هدم المسجد الأقصى.
ومن جانب آخر انتشر ظلم الأنظمة الحاكمة في بلاد العرب والمسلمين، ونشر الانحراف الأخلاقي وخاصة في بلاد الحرمين، وانتشر الشرك والإلحاد والزنا والربا والفواحش المختلفة، فرفع لواء الحق من المسلمين الدعاة والعلماء في العالم عامة وفي فلسطين خاصة.
لقد كانت المواجهة بين الحق والباطل لإنهاء هذا الظلم، وفي أكثر من بقعة في العالم وبالأخص في بيت المقدس وفلسطين، وهذه بشارة نبوية كما ورد في الحديث النبوي في البخاري ومسلم: وأخرجاه من حديث معاوية، رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ”. قَالَ عُمَيْرٌ: فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ: قَالَ مُعَاذٌ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ”[13]، سينتهي هذا الصراع بانتصار الحق وتحقيق دولة الخلافة الإسلامية، وتطهير المسجد الأقصى من ظلم يهود، قال تعالى:” وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”[14].
لقد روى أبو داود في سننه عن ابن حوالة الأزدي حينما بشره النبي ﷺ بعودة الخلافة الراشدة بعد رفعها:” يا ابنَ حَوَالَةَ! إذا رأيتَ الخِلافةَ قد نَزَلَتِ الأرضَ المُقَدَّسَةَ، فقد دَنَتِ الزلازلُ، والبَلابلُ، والأمورُ العِظامُ، والساعةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ من الناسِ من يَدِي هذه مِن رأسِكَ”.
وفي هذه الرواية معجزة نبوية تتحدث عن عودة الخلافة بعد رفعها التي لم يُعلم في تاريخ خلافة المسلمين أنها رفعت إلا كما رفعت الخلافة العثمانية ولم يعد هناك خلافة أو خليفة يحكم بالإسلام حتى وقتنا الحالي. وبعد عودة الخلافة وحكم الإسلام تنقضي حلقة من حلقات الصراع والمواجهة بين الحق والباطل، وليست آخر الحلقات.
وخامس هذه الحلقات أعظم فتنة والتي أخبر عنها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عندما يخرج الدجال وينشر ظلمه وفساده في الأرض، وهو شر غائب ينتظر، روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:” قام رسول الله ﷺ في الناس فأثنى على الله بما هو أهله – ثم ذكر الدجال – فقال: إني لأنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه”[15].
النبي ﷺ ينذر قومه لشدة فتنة الدجال، وما يثيره في الأرض من شرور، ففي رواية أحمد” عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ”[16].
حتى تكون نهاية الدجال على يد سيدنا عيسى عليه السلام، روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال:” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي خَفْقَةٍ مِنْ الدِّينِ وَإِدْبَارٍ مِنْ الْعِلْمِ فذكر الحديث وفيه: ثُمَّ يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيُنَادِي مِنْ السَّحَرِ فَيَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى الْكَذَّابِ الْخَبِيثِ فَيَقُولُونَ هَذَا رَجُلٌ جِنِّيٌّ فَيَنْطَلِقُونَ فَإِذَا هُمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُقَامُ الصَّلاةُ فَيُقَالُ لَهُ تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ فَيَقُولُ لِيَتَقَدَّمْ إِمَامُكُمْ فَلْيُصَلِّ بِكُمْ فَإِذَا صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحِ خَرَجُوا إِلَيْهِ قَالَ فَحِينَ يَرَى الْكَذَّابُ يَنْمَاثُ كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ فَيَمْشِي إِلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ حَتَّى إِنَّ الشَّجَرَةَ وَالْحَجَرَ يُنَادِي يَا رُوحَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ فَلا يَتْرُكُ مِمَّنْ كَانَ يَتْبَعُهُ أَحَدًا إِلا قَتَلَهُ”[17].
سنة الله جارية وسنة التدافع غلَّابة وأمر الله نافذ ونصره حتمي مقدر:” سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا”[18].
هذا تلخيص لحلقات الصراع بين الحق والباطل في التاريخ والحاضر والمستقبل، أن تكون مع الحق فهذا الشرف ولو أن تكون حصاة صغيرة في جسم الحق العظيم، ولا يغرنك تكالب الباطل وانتفاشه فهو إلى زوال، قال تعالى:” تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[19]“، “قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ”[20].
وأيا كان لون النصر فإن وعد الله قائم بانتصار عباده الصالحين وانتصار عقيدتهم إذ يقول تعالى:”وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ”[21].
[1] كتاب نداء الله للمؤمنين في آيات النصر والتمكين: ص23 الشيخ السيد طه أحمد
[2] الفتح: 23
[3] سورة الحجر.
[4] سورة آل عمران.
[5] سورة غافر
[6] أخرجه مسلم (1922)
[7] سورة القمر
[8] سورة القمر
[9] سورة الإسراء.
[10] الأنبياء
[11] سورة الحج
[12] سورة التوبة.
[13] البخاري (3641) ومسلم (1037).
[14] سورة النور
[15] صحيح البخاري رقم الحديث (7127)
[16]. مسند الإمام أحمد حديث رقم (15831)
[17] مسند الإمام أحمد حديث رقم (1442).
[18] الفتح: 23
[19] سورة القصص
[20] سورة الأعراف.
[21] سورة الصافات
تصنيفات : قضايا و مقالات