ثمن التغيير، د. إبراهيم جويلس
أغسطس 31, 2024
للمشاركة :

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الأولين والآخرين، سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدّين، وبعد؛

فهذه مقالة بعنوان: ثمن التّغيير، سوف أتناول فيها أهميّة الفهم الصحيح لهذه العبارة، وتأصيلها الشّرعي من القرآن الكريم والسّنة النبويّة، وموقعها من السّنن الكونيّة، ومدى انسجامها مع قوانين الكون وسنن الفطرة.

تأتي هذه المقالة استجابة لواجب الوقت الذي كثر فيه التساؤل أمام حجم الدّمار الذي أصاب أهلنا في غزّة، وبين يديّ الثمن الكبير الذي قدّمه القطاع ويقدّمه ثمنًا لنيل الحريّة والكرامة، فهل تستحق تلك السلعة هذا الثمن؟ وهل تخلّى ربّ العزّة جلّ وعلا عنهم وتركهم فريسة بين أنياب عدوّهم؟ أم أن المسألة تندرج تحت قوانين الحياة الطبيعيّة، وسنن الكون الإلهيّة؟

في البداية لا بد من الإشارة إلى حقيقة لا يختلف فيها اثنان، ولا يناطح فيها عنزان، يمكن من خلالها وضع المسألة في سياقها الطبيعي، وهي أنّ هذه الدّنيا خلقت لتكون دار امتحان وابتلاء وليست دار مستقر وجزاء، فهي ليست جنّة الخلود التي لا يمسّ أهلها السوء ولا هم يحزنون، وليست جنّة النعيم التي لا يسمعون فيها لغوًا ولا كذابًا، وبما أنّ الدّنيا دار امتحان فلا يخفى على عاقل أن طبيعة الامتحان تقتضي الجد والاجتهاد، والبذل والتّضحية، والإصلاح والتّغيير، ودفع الضريبة وتقديم الأثمان، قال تعالى:﴿‌وَلَوْ ‌شَاءَ ‌اللَّهُ ‌لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [المائدة: ٤٨]، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ‌لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: ٢].

وفي هذا السياق وضمن هذه الطبيعة التي خلق الله عليها الدّنيا، جاءت سنّة التّغيير كونها إحدى سنن الله في كونه، تلك السنن التي تتميّز بكونها ربانيّة المصدر والتّقدير، قال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي ‌قَدْ ‌خَلَتْ ‌مِنْ ‌قَبْلُ﴾  [ الفتح: ٢٣]، كما وتتصف بالعموم والشمول؛ فيخضع لها الجميع، دون استثناء ولا تمييز، فهي تجري على المؤمنين الموحدين كما تجري على الكافرين المشركين، من هنا كان الخطاب في القرآن الكريم في أثناء الحديث عن السّنن الكونيّة موجهًا لعموم الناس، قال تعالى: ﴿‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَا ‌يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾  [الرعد: ١١]، كما وتتّسم بالثبات والاستمرار؛ فلا تتغيّر ولا تتبدّل ولا تتحوّل، وتجري على الآخِرين كما جرت على الأوَّلين، وتعمل في عصر سفن الفضاء عملها في عصر الجَمَل سفينة الصحراء، قال تعالى: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ ‌تَحْوِيلًا﴾  [فاطر: ٤٣]، كما وتتميّز بالاطّراد والتكرار على نهج واحد؛ لا تختَلف ولا تتخلّف؛ كلما وجدت الأسباب، وتوفرت الشروط، وانتفت الموانع، قال تعالى: ﴿‌قَدْ ‌خَلَتْ ‌مِنْ ‌قَبْلِكُمْ ‌سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾  [آل عمران: ١٣٧].

وسنّة التغيير في الأمم والمجتمعات واحدة من تلك السنن الثابتة الباقية إلى يوم الدّين، تحتاج إلى نيّة صادقة، وعزيمة راسخة؛ فالتّغيير ليس كبسولة يتمّ تناولها، ولا كبسة يتم ضغطها، إنّها رحلة طويلة، تبدأ بإدراك الحاجة للتّغيير، وتنطلق من قرار جادّ نحو العمل، وتستمر ببذل الأثمان ودفع الفواتير، وتنتهي بمعيّة الله وتوفيقه، تلك الرّحلة التي تجلّت في بناء جيل الصحابة، وتحقيق التّغير المنشود على أيديهم، فلم يكن ذلك الجيل ثمرة محاضرة مؤثّرة، ولا نتيجة موعظة مُبْكِية، إنّها ثمرة سنوات من الجهد والبذل ودفع الأثمان؛ فنصف الصحابة من المهاجرين دفعوا ترك ديارهم ثمنًا لنصرة النبي r، ونصفهم الآخر من الأنصار دفعوا نصف أملاكهم عربون محبّة لإخوانهم، ودفع المهاجرون والأنصار أرواحهم ودماءهم وأموالهم ثمنًا لبناء الدولة الإسلاميّة، وضريبة لصناعة الحضارة الإنسانيّة.

إنّه ثمن التّغيير الذي تجلّى في كثير من محطّات الحياة، تجلّى في الثَّمَن الذي دفعه الطالب كي يحصل على فرحة النجاح، وبالثّمَن الذي دفعه المزارع كي يحصل على الثمار، وبالثَّمَن الذي دفعه التاجر كي يحصل على الربح، وبالثَّمَن الذي دفعه المريض كي ينعم بالصّحة، وبالثَّمَن الذي دفعه المقاوم كي يحصل على الحريّة، وبالثَّمَن الذي دفعه المؤمن كي ينال رضى الرحمن والفوز بالجنان، وهكذا شأن تحقيق الآمال لا بد له من دفع الأثمان، وكلّما كانت الأهداف عالية، كانت الأثمان غالية، ففي الحديث الصحيح: ” أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الجَنَّةُ”، قال تعالى: ﴿‌أَحَسِبَ ‌النَّاسُ ‌أَنْ ‌يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾  [العنكبوت: ٢]، وفي هذا يقول الشاعر:

دَبَبْتُ للمجدِ والساعون قد بلغوا               جَهْـــــدَ النفوس وألقَوا دونـــــــــــــــه الأُزُرا

وكابدوا المجد حتى ملَّ أكثرُهم                وعانقَ المجدَ مَن أوفى ومَن صَبَرا

لا تحسَبِ المجدَ تمرًا أنتَ آكلُه               لن تبلغَ المجـــــــــد حتى تلعَق الصَّبِرا

وأخيرًا: أختم بأجمل ما قيل في هذا الباب:” من لم يدفع ثمن التّغيير مسبقًا، سيدفع ثمن عدم التّغيير ألمًا”، وهو ما عبّرت عنه قصّة الدّيك والأذان:

يُحكى أنّ ديكاً كان يُؤذّنُ للفجر كلّ يوم، فقال له صاحبه: أيها الدّيك لا تُؤذن وإلا ذبحتُك!!

قال الدّيكُ في نفسه: من الحكمة أن أتنازل قليلاً حتى أحافظ على نفسي، وعلى كلّ حال هناك ديوك غيري سوف ترفعُ الأذان!!

وبعد أسبوع جاء صاحبُ الدّيك وقال له: لا يكفي أن لا تُؤذن، إن لم «تُقاقي» كالدجاج، ذبحتك!!

فعاد الدّيكُ وقال في نفسه: من الحكمة أن أنحني قليلاً حتى تمرّ العاصفة، ولا بأس ببعض «المقاقاة»!! وبالفعل بدأ الدّيكُ «يُقاقي»!!

وبعد أسبوع جاء صاحبُ الدّيك وقال له: الآن إما أن تبيض كالدجاج أو أذبَحُك!!

عندها بكى الدّيكُ وقال: يا ليتني متُّ وأنا أُؤذّنُ ولا عشتُ وأنا أحاولُ أن أبيض!!

فمن لم يدفع ثمن التّغيير مسبقًا، سيدفع ثمن عدم التّغيير ألمًا.   

تصنيفات :