الحمد لله كامل الصفات، المنزَّه عن العيوب والزَّلات، أرسل رسله للعمل على تغيير حال أممهم والرقي بها إلى أعالي الدرجات، فشرح الله بهم الصدور، وأنقذوا من اتَّبَعهم من الضلال إلى النور.
ولما كان العلماء والدعاة ورثة الأنبياء، لزمنا الرجوع لسيرهم، والاستنارة بالطرق التي سلكوها في هداية أممهم، وأولى من يرجع لسيرته، ويقتبس من هديه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فالمتتبع لسيرته يتضح له بشكل جلي الطريقة التي سلكها في تغيير الانحرافات التي كان يعاني منها العرب في ذلك العصر، بناء على شدة خطورتها، وأثرها في بناء ذلك المجتمع؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بمثابة طبيبٍ لهذه الأمة، والطبيب الحاذق هو الذي يشرع بعلاج الأمراض التي يعاني منها مريضه، بحسب شدة خطورتها على حياته، ثم يتدرج في العلاج إلى أن يصل إلى علاج الأمراض التي تؤثر على كمال صحة ذلك المريض، وكذلك الحال بالنسبة للدعاة، فالأصل أن يشرعوا في علاج الأمراض التي تؤدي إلى ضياع الأمم وهلاكها، لا أن يستنفدوا أوقاتهم وطاقاتهم ببعض المسائل الخلافية، ليجعل من تلك المسائل شغله الشاغل، والقاعدة التي يبني عليها ولاءه وبراءه، ويترك الأمة غارقة في أمراض تكاد لا تبقي لها وجوداً بين الأمم، لذا ينبغي على الدعاة أن يحرصوا على علاج الأمراض التي نخرت جسد هذه الأمة، بناء على خطورتها وأثرها على عقيدة المجتمع المسلم ووجوده، وليحذر الداعية من مصائد الشيطان التي تغريه بقدرته على تغيير هذه الأمراض جملة واحدة، فهذا الأمر يتنافى مع سنن الله عز وجل في تغيير المجتمعات، ومن هنا لا بد من مراعاة سنن الله في تغيير الأمم.
وما سبق يفسر لنا الغاية من التدرج في تشريع الأحكام الشرعية، والمدة التي قضاها النبي صلى الله عليه وسلم في بناء المجتمع المسلم، وتغيير ما به من رواسب الجاهلية، وأول قضية شرع النبي صلى الله عليه وسلم في علاجها، قضية الشرك التي كانت تعم الجزيرة العربية، فبدأ بترسيخ عقيدة التوحيد وزرعها في نفوس أصحابه، ومن مقتضياتها مفهوم عقيدة الولاء والبراء؛ لأن العرب في ذلك العصر كان ولاؤهم وتعصبهم مبنياً على الرابطة القبلية، فعمل على تغيير هذا الأمر بطرق وأساليب شتى، منها بيان عظم منزلة الولاء والبراء في الدين، فقال عليه الصلاة والسلام: “إنَّ أَوثقَ عُرى الإيمانِ أنْ تُحِبَّ في اللهِ، وتُبغِضَ في اللهِ”( أخرجه أحمد في مسنده، والحديث حسن بمجموع طرقه.)، وتارة بتذكيرهم بقصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام مع قومه حين أصروا على محاربة الدين، ومعاداة رب العالمين، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ (الممتحنة: ٤)، فأثمرت هذه التربية جيلاً يؤمن أن سلمانَ الفارسي، وبلالاً الحبشي، وصهيباً الرومي، أقرب له من أبيه إن كان عدواً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ما تحقق مثالاً حياً مع أمين هذه الأمة -أبو عبيدة-، حين واجه والده في أول معركة بين الحق والباطل، وأجهز عليه في سبيل دفاعه عن دين الله، فأنزل الله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ )المجادلة:22)، فنتج عن ذلك جيل غايته إرضاء الله تعالى، ونصرة دينه، ينظر لهذه الأمة كالجسد الواحد، متى تألم منها جزء تحرك الجزء الآخر لنصرته، ولما اختل هذا المفهوم في الأمة، وأصبح الولاء والبراء مبنياً على الانتماءات الفكرية، والتوجهات السياسية، والمصالح الشخصية، أضحى العدوان على المسلمين من كل حدب وصوب، فانتهكت حرماتهم، وسفكت دماؤهم في شتى بقاع الأرض، ولا تكاد تجد لهم نصيراً، بل أصبح حال بعض المسلمين ينطبق عليه قول الشاعر:
وإخوانٍ حسبتهمُ دروعاً فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهمُ سهاماً صائباتٍ فكانوها ولكن في فؤادي
ومن هنا كان لزاماً على الدعاة، أن يحرصوا كل الحرص على علاج مفهوم عقيدة الولاء والبراء، التي تشوهت في نفوس بعض المسلمين، وانتكست في تصوراتها، فلا بد من تصحيح هذا المفهوم، لما له من أثرٍ عظيم في نهضة الأمة، والذود عن حياضها، والدفاع عن دينها وشرفها وأرضها، لتعود الأمة كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
تصنيفات : قضايا و مقالات