كونوا مستعدين للتغير، د. أحمد عبد الجواد
أغسطس 31, 2024
للمشاركة :

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وبعد؛

فإن التغيير لا بد له من إعداد مسبق وتهيئة لأرضيته التي سيقوم عليها، وليس هناك من منطلق لذلك أفضل من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ففي السيرة النبوية أسوة لنا في جميع جوانب الحياة إلى قيام الساعة يقول تعالى: “لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(21)” الأحزاب. ويقول سبحانه وتعالى: “مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)” النساء.

وبنظرة سريعة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنه أنفق أكثر من 50% من عمر النبوة معرفا بالله تعالى ومربيا صحابته على مبادئ الأخلاق الكريمة، كل ذلك كان ممزوجا بالواقع غير منفصل عنه، فليست هذه الدعوة التي قام بها صلى الله عليه وسلم مجرد معرفة فكرية بحته، بل تطبيق للشريعة على أرض الواقع، وقد كان لهذه التربية آثار عظيمة انبنت عليها حضارة الإسلام فيما بعد.

والسؤال الذي يطرح نفسه: كم كان عدد المسلمين الذين أسلموا وتربوا في مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى المدينة المنورة؟ بالرجوع إلى كتب السيرة يبدو أن العدد كان قليلا، فقد ذكر ابن اسحق في سيرته ما يقرب من خمس وخمسين صحابيا أسلموا في بداية الدعوة إلى الله تعالى (ابن اسحق، سيرة ابن اسحق 1\181 وما بعدها.)

وكان عدد المهاجرين  إلى الحبشة في الهجرة الأولى على أقصى حد اثني عشر رجلا وخمس نساء (القسطلاني، المواهب اللدنية بالمنح المحمدية 1\240)،  وبلغ عددهم في الهجرة الثانية  إلى الحبشة ثمانين رجلا وثماني عشرة امرأة (المصدر نفسه 1\259).

ويمكننا القول: إن عدد المسلمين في المرحلة المكية كان قليلا، ولكن هذه الثلة القليلة التي تربت في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي من قامت على أكتافها الدولة والفتوحات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجد منهم أئمة في السياسة كالخلفاء الراشدين وعلى رأسهم أبي بكر رضي الله عنهم[1]، وأئمة في الفقه كعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم ، وأئمة في الجهاد والإقدام وعلى رأسهم أسامة بن زيد، الذي بعثه صلى الله عليه وسلم إلى تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين وكان في الجيش المهاجرون الأولون (ابن اسحق، السيرة النبوية، 673، وغيره كثير، حيث بلغت سراياه صلى الله عليه وسلم سبعا وأربعين سرية كان لكل منها قائدٌ (القسطلاني، المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، 1\335)، وهؤلاء الأئمة وإن برَز كل واحد منهم في جانب معين، إلا أن العامل المشترك بينهم هو القاعدة الدينية والأخلاقية التي ينطلقون منها، فكلهم قد شرب حتى تضلع من الشريعة الإسلامية على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونضرب لذلك مثالا في جانب الطاعة، فهذا سيدنا عمر بن الخطاب (ابن تيمية منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشعية القدرية، 4\279) قبل أن يكون تحت إمرة أسامة بن زيد في البعثة التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تخوم البلقاء، ولم يبلغ أسامة في ذلك الوقت ثماني عشرة سنة، كذلك فعل خالد بن الوليد القائد الفذ حين أمره عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين بالتنازل عن القيادة لأبي عبيدة عامر بن الجراح وبقي تحت قيادة أبي عبيدة في الشام أربع سنوات (الصلابي، فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شخصيته وعصره، الحلقة 64، بتاريخ 13\11\2019)، فالواحد منهم لا يتأفف أن يكون جنديا عاديا تحت إمرة غيره، لا لأنه غير كفء للقيادة، بل لأن هدفه هو مرضاة الله تعالى.

وإذا كان من درس نأخذه فيما نستعد به للتغيير القادم، فهو أننا بحاجة إلى نخب فقهية وفكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية ريانة من شرع الله، تقود المسيرة وتؤدي مهمتها على أكمل وجه، وهذه النخب وإن وجد الكثير منها في زماننا إلا أن الإشكالية تكمن في أنهم انفصلوا عن دينهم فهم إما منكرون له، أو أنهم قد فهموه فهما مشوها، فهم وإن اعترفوا به على المستوى الفردي فإنهم لا يؤمنون به حاكما على كل ما يصدر من الإنسان، إلا من رحم ربي.

 ولإنشاء جيل كهذا الجيل أو قريب منه لا بد من إيجاد ثلة من العلماء الصادقين الذين ينذرون أنفسهم لله وفي سبيله، يقبلون على تعليم الناس، بعد أن يكونوا قدوة لهم، يبلغون دينَهم ويضحون بالغالي والنفيس في سبيل ذلك، وهذا حمل ثقيل على النفس إلا بعون من الله تعالى وتوفيقه.

اللهم اجعل ما قلنا خالصا لوجهك واهدنا إلى سواء السبيل.


[1] يقول ابن تيمية رحمه الله عن قرار أبي بكر إنفاذ بعثة أسامة بن زيد بعد أن أشار عليه الصحابة الكرام عدم إنفاذها للظروف التي طرأت بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم: “فَامْتَنَعَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ رَدِّ الْجَيْشِ وَأَمَرَ بِإِنْفَاذِهِ…. وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ مَعْرِفَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَإِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ وَتَدْبِيرِه”. منهاج السنة النبوية، 5\489

تصنيفات :