الحمدُ للهِ الَّذي لا يُحلَفُ بأعظمَ من اسمِه، ولا يحمَدُ على السَّـراء والضـرَّاءِ غيرُه،الَّذي قالَ فأبْلَغْ، وأنعمَ فأسَبَغْ، وفَّقَنَا لعبادَتِه، وأكرَمَنَا بهدايَتِه، وطَهـر من الارْتِيَابِ قلوبَنَا، وشرحَ بالقرآن الكريم صدورَنا،الَّذي جعل العبيدَ بطاعَتِهِ ملوكاً، والملوكَ بمعصِيَتِه عبيداً، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدِ ولدِ آدمَ النَّبيِّ الأمِّيِّ، الَّذي أرسله ربُّه بالهدى ودِينِ الحقِّ، فأدَّى الرِّسالة ونصح للأمَّةِ، وترَكَهَا على الِمحَجَّةِ البَيْضَاءِ، وبعدُ
والقدوة – في حقِيقَتِهَا عُنْوَانٌ عَرِيضٌ يحمل في طيَّتها الخيرَ الكثيرَ للفَرْدِ وللأُسْرَةِ وللمجتَمَعِ وللجمَاعَةِ، وقَدْ وضَّح لنا القرآنُ الكريمُ الطـريقَ القويمَ في القُدْوة، وبيَّن أنَّ الرَّسول الأكرمَ هو القدوة الـمُثْلَى الَّتي يجدُ فيه الإنسانُ المسلمُ ضالَّته، فقال:” لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا”.[الأحزاب 21].
فالإنسانُ بحاجةٍ إلى القدوة الحسنة، واتباع النَّبِيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وهو بحاجة أيضًا إلى مواصلة العمل، وكذلك بحاجة إلى العفو والتَّسامح؛ حتَّى يكون قدوةً في العفو والتَّسامح وتقديم الخير للغَيْرِ، والإحسانِ إلى النَّاس والشُّعُور معهم، وهو بحاجة أيضًا إلى الأخذ بسُنَنِ الله في هذا الكون الرَّحيب، فما أحوجَ الإنسانَ الَّذِي يبحث عن الاحترام والنَّجَاح والتَّقْدِير والسَّعادة والسِّيَادةِ على الأرض إلى عون الله تعالى وتوفيقه!! ولله درُّ القائل:
إِذَا لَـمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللهِ لِلْفَتَى فَأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهْ
ونحن في عصـرٍ عصيبٍ عجيبٍ، ونحن أحوجُ ما فيه إلى تقديمِ النَّمُوذجِ الَّذي يُحْتَذَى به في القُدْوَةِ من خلال ميادينَ متعدِّدةٍ، فلْنَكُنْ قُدْوَةً طيِّبَةً في التَّضحية وتقديمِ الواجِبِ، ومساعدَةِ المحتاجينَ والمعوَزِينَ، الَّذين تقطَّعَتْ بهم السُّبُلُ، وأطبَقَتْ عليهم قبْضَةُ الظُّرُوفِ القَاهِرَة، وليس هناك سبيلٌ لنا إلا التَّعاضد، وقدوتُنَا في ذلك الصَّحابة الكرام الَّذين قدَّمُوا لنا نموذجًا مشـرِّفا أسطوريًّا في التَّضحية ونُكْرَانِ الذَّات في صنيعهم مع إخوانهم المهاجرين الَّذين ترَكُوا ديارَهم؛ فرارًا بدينهم، وليعبدوا الله حقَّ العبادة بعيدًا نظر الكفَّار الَّذين تفنَّنوا في إيذائهم، فقدَّم الواحد من الصَّحابة نصفَ مالِه لأخيه المهاجر، وطلَّق زوجةً من زوجاته؛ ليتزوَّجها أخوه المسلم المهاجر!! وقدوَتُهم في ذلك الرَّسول الأكرم الَّذي لم يكن يربِّي أصحابَه بالكَلامِ يديرُه على لسانِه، وإنَّمَا كان يربِّيهِم بأفعَالِه، فقد كان -عليه الصَّلَاةُ و السَّلامُ- قرآنًا يمشـي على الأرض، و «كان خلقُهُ القُرْآن»؛ لذا مدَحَه الله -تعالى- فقال:”وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ” [القلم: 4]
ولا ينبغي أنْ يغيبَ عن بالِنَا -أيضًا- أنَّ القدوة من صميمِ دينِنَا الحنيف، إذ إنَّ الاقتداءَ بالرَّسول – صلَّى الله علي وسلَّم – أمرٌ شرعيٌّ واجب، وقد ورد في ذلك العديد من الأحاديث النَّبويَّة الشـريفة، فقال – عليه الصَّلاةُ والسَّلام – :” (صلُّوا كما رأيْتُمُونِي أُصَلِّي)، فكان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- الـمَظْهَرَ العمَلِيَّ لشـريعة الله تعالى، فهو المكلَّف الأوَّل:”وأنا أوَّلُ المسلمين”، [الأنعام163]. وقوله:”وأنا أوَّل المؤمنين”.[الأعراف 143] .
وكما كان الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – قدوةً فإنَّ الأنبياء من قبله كانوا قدوةً يُؤْتَسَى بها، و ما حدث ليوسفَ -عليه السَّلامُ – من ابتلاءاتٍ ومحنٍ نموذجٌ آسرٌ للاقتداء، وهو ليس عقوبةً كما تصوِّرُ بعضُ الرِّواياتِ الإسرائيليَّة، وإنَّما كانَ دخولُه السجنَ لرفعِ درجاتِهِ عنْدَ الله، وهو ما ذكره القرآن الكريم في قولـه تعالى:” نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ”[يوسف 76]، وليكونَ الأسوَةَ والقدوةَ في الصَّبْرِ والرِّضى بالقَضَاءِ والقَدَر”، فقدَّم لنا سيُّدنا يوسفُ نموذجًا رائعًا في الأدب والصَّبر والرِّضى بقضاء الله، يطيبُ الزَّمان به وبقصَّة حياته الَّتي فيها العِبَرُ والعِظَاتُ البَلِيغَة.
فالقدوةَ القدوةَ في كلِّ خير أيها الإخوة الأكارم؛ فنحن أحوج إليها في هذا العصر العصيب الرَّهيب، وخاصَّةً أنَّنا في أمَّةٍ تكالبت عليها قوى الشـر من كلِّ حدبٍ وصوب، ولا خَيَارَ لنا إلَّا أنْ نكونَ النموذجَ الأمثل في القدوة الحسنة في الصَّبر والتَّضحية والعطاء، نزيِّن بها سِيَرَنا وأيَّامَنَا، كما نُجَمِّل بها صَفَحَاتِنا عنْدَ الله ، يوم لا ينفعٌ مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
تصنيفات : قضايا و مقالات