د. موسى إسماعيل البسيط
أستاذ الحديث وعلومه بجامعة القدس وكلية الدعوة بأم الفحم
“الرباطُ في سبيلِ الله” يعني الإقامة في الثغور؛ وهي الأماكنُ التي يُخاف على أهلها من العدو. “والمرابط ُ” هو المقيمُ على الثغور والمُعِدُّ نفسَه في سبيل الله والدفاعِ عن دينِه وإخوانه المسلمين؛ يلحق بذلك المقيمُ في وطنه ينوي دفع العدو ، وحكمُ الرباط الوجوب قال الله تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصابروا ورابطوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي اصبروا على دينكم، واصبروا على شهوات النفس ورغائبها واصبروا على البلاء، وصابروا الأعداء، فلا ينفدُ صبرُكم؛ ورابطوا، وادأبوا، واثبُتوا لعلكم تفلحون.
وثمة معنى عام للرباط هو؛ المداومةُ على الأمر وملازمته، وحبسُ النفس عليه؛ فمفهوم الرباط أوسع من تقييده بالثغور، فيشمل كلّ ملازمةٍ في سبيل الله لأجل العدو، والعبرة في وجود الصراعِ والتدافعِ، وقد ألمح النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في قوله: (أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ بها الدَّرَجاتِ؟ قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: إسْباغُ الوضوءِ المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانتِظارُ الصلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ) تشبيهاً بالرباط في سبيل الله تعالى. والرباطُ في سبيل الله من أفضل الأعمال وأعظم شُعَبِ الإيمان؛ وبلغ من أجره أن جُعل ثواب رباط يوم في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما فيها.
وروى مسلم من حديث سلْمان رضي الله عنه : (رباطُ يومٍ وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامه) بل إن مَن مات مرابطاً فإنّه يَجري عليه عملُه الذي كان يعملُ، وأُجريَ عليه رزقُه، وأمِن الفتان، وثبت من حديث فضالة بن عبيد مرفوعاً (كلُّ ميتٍ يُختَمُ على عملِهِ إلا المرابطَ في سبيلِ اللهِ فإنَّهُ يُنْمَى له عملُهُ إلى يومِ القيامة ويأمنُ من فتنةِ القبرِ )، قال القرطبي: والرباطُ يضاعفُ أجرُه إلى يوم القيامة؛ لأنّه لا معنى للنماء إلا المضاعفة، وهي غير موقوفةٍ على سبب فتنقطع بانقطاعه، بل هي فضلٌ دائمٌ من الله تعالى إلى يوم القيامة، وهذا لأن أعمالَ البرّ كلَّها لا يُتمكن منها إلا بالسلامة من العدو والتحرز منه بحراسة بيضة الدين، وإقامة شعائر الإسلام، وهذا العمل الذي يجري عليه ثوابُه هو ما كان يعملُه من الأعمال الصالحة.
واتفق العلماء على أن الرباطَ في الثغور أعظمُ أجراً من المجاورة في المساجد حتى التي اختصها الله بالفضل؛ وإذا كان هذا ثواب الرباط في ثغور الإسلام، فكيف إذا غدا المسجدُ الأقصى المبارك من أعظم ثغور الإسلام وأخطرها ألا يكون أعظم مكانة وأجزل أجراً؟
إن أرض فلسطين أرضُ رباطٍ إلى يوم القيامة أوصى نبينا -صلى الله عليه وسلم – بسكناها والرباط فيها عند اشتدادِ الفتن فقَالَ لذي الأصابع: “عَلَيْكَ ببيت المقدس، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَنْشَأَ لَكَ ذُرِّيَّةٌ يَغْدُونَ إِلَى ذَلِكَ المسجد ويروحون”، مسجدُها الذي بارك فيه وبارك فيما حوله في آية يتلوها كلُّ مسلمٍ على وجه الأرض إلى قيام الساعة.
ومما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: أن الإيمان في آخر الزمان سوف يستقر في أرض الرباط فقال (إنِّي رَأيتُ كأنَّ عَمودَ الكِتابِ انتُزِعَ مِن تَحتِ وسادتي فأتبعته بَصري، فإذا هوَ نورٌ ساطِعٌ، عُمِدَ به إلى الشام، ألَا وإنَّ الإيمانَ إذا وَقَعَتِ الفِتنُ بِالشَّامِ.(
ولا شك أنّ رؤيا الأنبياء حق؛ فإن المؤمنين سوف يرابطون في بلاد الشام وفلسطين لأنها خِيرَةُ اللهِ من أرضه، يَجْتَبي إليها خِيرتَه من عِبادِه، وهمْ سوطُه ينتقمُ بهم ممّن يشاءُ من العتاة الجبابرة… كيف لا! وهي أرض الطائفة المنصورة التي تبقى في رباطٍ كما في حديث أبي أمامه (لا تزال طائفة من أمّتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك”، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس(“.
إن أرض فلسطين أرض رباط دائم مذْ فتحها عمرُ رضي الله عنه ووفدَ معه الصحابة فكانوا فيها مرابطينَ وفي مسجدها الأقصى مجاورين، وعنها ذائدين. وقد تقرر في الفقه وجوبُ الإقامةِ في أرض الرباط وعدم جواز الهجرة منها؛ لما يترتب على الخروج منها من تهويدِ معالمها، وطمسِ هويتها العربية الإسلامية.
وأنت يا أيها المؤمن المرابط في هذه الديار المقدّسة! احتسبُ الأجر َوالمثوبةَ في رباطك، وعليك بالإخلاصِ والثباتِ والإكثارِ من الذكْرِ قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(
والمرابط في هذه الأرض المباركة يستحضر المفهومَ الواسعَ للرباط الذي يحملُ طابعَ الشمول والتكامل، ولا يقبل التجزئة؛ حيث الملازمة المطلقة للعبادة والطاعة، وفيه الثباتُ في الأرضِ، والحفاظُ على الهوية، وأن يكون الرباط في جميع المجالات بِدءاً بالتمسك بالعقيدة، وتقويتها لدى الجيل، ومقاومة كل محاولات تهوين العقيدة وتهديد الإيمان.
إن حمايةَ أفكارِ المسلمين لا يقل أهميةً عن حماية الأرض؛ لأن سلامة الفكر والاعتقاد هو الضابط للسلوك، فإذا فسد الفكر انحرف السلوك؛ ومن هنا لا بد من الرباط في المجال الأخلاقي ورعايتِه، كما يحرص المرابط على الرباط في مجال العلم والتعليم للإنسان الفلسطيني في مختلف المراحل؛ عناية ورعاية وتطويراً وفق الرؤية الوطنية والهوية العربية الإسلامية.
أهلُ الرباطِ أهلُ علمٍ وفقهٍ وعملٍ، يضحّونَ بالغالي والنفيس من أجل الله، ويَعون تمام الوعي قيمة المسؤوليةِ الملقاةِ على عاتقهم. هم ذوو همة عالية يعتبرون كل مجالٍ من مجالاتِ العملِ الدعويّ والخيريّ والعلميِّ والإصلاحيّ ثغراً من الثغور يلزم الرباط فيهِ وسدّه.
والله الموفق وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.
تصنيفات : قضايا و مقالات