من قصص الرباط في وقتنا المعاصر: فلسطين ونعمة الرباط
نوفمبر 2, 2024
للمشاركة :

أ. عفت صدقي الجعبري

نائب رئيس مجلس أمناء الاتحاد النسائي الإسلامي العالمي

الرباط: هو الملازمة في سبيل الله وأصلها من ربط الخيل فكل شخص ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطٌ فارساً كان أو راجلاً،  ذكر ابن حجر في فتح الباري أن الرباط هو:” ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم”. فمن أقام في أي مكان -وإن كان هذا المكان وطنَه- ينوي بالإقامة فيه دفع العدو فإنه يكون مرابطاً، بناءً على ذلك أن كل شخص يقيم بالشام بنية الرباط والجهاد ينال بإذن الله الأجر.

وبلاد الشام تشمل كل من سوريا ولبنان وفلسطين التاريخية، بالإضافة إلى مناطق حدودية مجاورة مثل منطقة الجوف ومنطقة تبوك في السعودية، قال صلى الله عليه وسلم:( سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنوداً مجنده جندٌ بالشام وجندٌ باليمن وجندٌ بالعراق) قال ابن حواله خر لي يا رسول الله -بمعنى اختر لي- إن أدركت ذلك، فقال: عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده، فأما إن أتيتم فعليكم بيمنكم واسقُوا من غدرِكم فإن الله توكّل لي بالشام وأهله.

إذن بلاد الشام وخاصةً فلسطين هي أرض الرباط والجهاد في سبيل الله إلى يوم القيامة بدليل قوله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء “سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذين باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير”.

لقد شرع الله سبحانه وتعالى الرباط في سبيله وذلك لحماية الثغور من الأعدا، وللرباط في سبيل الله فضائل عظيمة لا توجد في غيره من القربات فهو أحد شعب الإيمان جاء في رواية مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم رباط يومٍ وليله خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان، وروى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها.

روى أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت: مرابط في سبيل الله، ومن عمل عملاً أجري له مثل ما عمل ورجل تصدّق بصدقة فأجرها له ما جرت ورجل ترك ولداً صالحاً يدعو له.

إن الحديث عن الرباط حديث يطول بطول عظمته وأهميته ولأهميته العظيمة ترك أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم مكة والمدينة المنورة وتوجهوا إلى أرض الرباط في الشام ومن ورائهم سار التابعون إلى أن ماتوا شهداء ومرابطين.

سئل الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله أيها أحب إليك الإقامة بمكة أم الرباط في الثغور؟ فقال: الرباط أحب إلي، وقال ليس عندنا شيء من الأعمال الصالحة يعدل الجهاد والغزو.

 من تجليات الرباط في فلسطين

المرابطات في ساحات الأقصى

شهدت الفترة ما بين عام 2011 – 2022 أنماطا وتحولات في الجهاد والنضال الفلسطيني كالاعتصامات والحركات والهبات والهتافات التي قامت بها نساء القدس في ساحات الأقصى، التي حققت نوعاً من الانتصار والإنجاز، هؤلاء النسوة استطعن أن يطوّعن أدوات مقاومة جديدة ومتطورة في الحركات الشعبية جاء ذلك مع تصاعد الاقتحامات والاعتداءات الإسرائيلية للمسجد الأقصى، التي تسعى إلى إفراغ المسجد المقدس من أهله والسيطرة عليه وبناء هيكلهم المزعوم على أنقاضه.

ورغم التشديد والقمع والاعتقال والتنكيل وفرض الغرامات المالية إلا أن نساء القدس، ونساء من المنطقة المحتلة 48 عملوا معاً وبقوة الإرادة والمثابرة على خلق حراك جمعي نشيط فاعل مفتوح ومستمر للتصدي على اعتداءات الاحتلال.

تقول إحدى المرابطات إن المسجد الأقصى هو مكان مؤهّل للعيش الاجتماعي، بالإضافة إلى أنه بيت من بيوت الله، حيث السكينة والروحانية والهدوء والقرب من الله، فيه المدارس والعيادات وفيه متحف، وفيه مقومات الحياة الاجتماعية.

هذا الحراك النسائي بأشكاله المتعددة من تقديم الطعام، وطقوس عقد القران، والإشراف على مصاطب العلم المنتشرة في باحات الأقصى، وإطلاق الهتافات والتكبيرات، كل ذلك شكّل ولادة جديدة في النضال الفلسطيني في القدس، ودفع للكثير من نساء ورجال وشباب فلسطين من كافة المدن بالتوجه للأقصى والاعتكاف به إنه الأقصى الذي ستتحطم على صخرته كل المؤامرات.

الطوفان المقدس ورباط غزة

يتجلى الرباط بأبهى صورة وأعظم مشهد في مدينة غزة؛ حيث البطولات والتضحيات والانتصارات الصمود والصبر والإصرار والعزيمة والثبات؛ فالحديث عن غزة تخجل منه الكلمات، إنه حديث الإباء والكرامة والشموخ والعزيمة التي لا تلين غزة الجهاد، من غزة تعلمنا معنى البقاء والتضحية من أجل الرباط، من غزة تعلمنا كيف نفهم ونترجم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (عليكم بالجهاد وإن أفضل جهادكم الرباط وإن أفضل رباطكم عسقلان).

في غزة هاشم رأينا الرباط والجهاد بأشكاله وصوره المتعددة والمختلفة رأينا مصانع الرجال تروي لنا كل لحظة حكايات التضحية والصمود مشاهد يعجز العقل عن استيعابها، رجال ونساء وأطفال وشيوخ كلٌّ يروي لنا قصة الإيمان الذي لا تزعزعه وحشية القتل والإبادة، إنها التربية الإيمانية الثابتة والراسخة في قلب الصغير قبل الكبير. هذه التربية علمتنا وأضاءت لنا نور الكرامة والعزة، دروسٌ متقدمة في المقاومة والبطولة والكبرياء والشهادة، تعلمنا من غزه كيف استطاعت أن تبني بدماء شعبها ومقاوميها جسور النصر والتصميم وتترجم لنا معنى الرباط المقدس، والجهاد الحق في سبيل الله.

 غزة العزة تدافع اليوم عن شرف الأمه وكرامتها وتتصدى بصدرها العاري وأيديها المتوضئة خنازير وأجناس الأرض، فقد استطاعت هذه الطلائع المجاهدة أن ترسم الطريق للأجيال التي ستليها حاملةً الراية لا يضرها من خالفها ولا من عاداها، سائرة نحو النصر والتمكين لدين الله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:” لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا أين هم يا رسول الله؟ قال في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس”.

الرباط والخيارات المفتوحة

في ظل ما يعيشه أهل فلسطين من تحديات واعتداءات لا نهاية لها تبقى كل الخيارات مفتوحة، فلا عذر لأحد في التخلف عن واجبه، وأهم ما نحتاجه اليوم هو الوعي والفهم الحقيقي لمعنى الإيمان. والرباط ينطلق من هذا المفهوم، من قوله تعالى ((إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)) فالمعنى العميق لهذه الآية هو أن واقع الناس لن يتغير مالم يتغير وعيهم والمشكلة تكمن في تغييب الوعي الديني، وفصله عن القضايا الأساسية؛ فالوعي الديني هو الذي يحدد سائر مواقفنا، وإلا سنبقى في حالة من الغفلة وعدم الفهم لما يجري حولنا. 

لقد أكرمنا الله بنعمة الوجود على هذه الأرض المقدسة الطيبة المباركة، إن هذه الكرامة الإلهية تستوجب منا أن نكون على هذا المستوى من التكريم الرباني الذي يتطلب منا جميعاً العمل، وكلنا مسؤول أمام الله فالكلمة اليوم رباط وجهاد، والثقافة جهاد ورباط، والنضال الإلكتروني جهاد، نشر المعلومة والحراك ورفع الصوت رباط، تربية الأبناء التربية الإيمانية وإعدادهم وتعليمهم كل ذلك جهاد ورباط، كل ما نملك وما يكون بأيدينا نقدمه رباط،  “يأيها الذين امنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون” صدق الله العظيم.

تصنيفات :