تتفاوت المقاصد في الشريعة الإسلامية[1] بتفاوت أهميتها، كما تتفاوت الوسائل[2] الموصلة إلى هذه المقاصد بحسب أهمية مقصدها وبدرجة قربها منه، وكذلك بتعدد ما تفضي إليه من مقاصد، وكلما تعددت المقاصد التي توصل الوسيلة إليها زادت أهميتها وفضلها[3]، كما أن من الوسائل ما يتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والظروف[4]، فالجهاد في سبيل الله تعالى؛ من أعظم الوسائل لإعزاز دين الله تعالى وأتباعه، ودفع العدوان والظلم، وحفظ الأنفس والأعراض، رغم ما فيه من الآلام والجراح والدمار المصاحب له، قال تعالى: ]وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ[ [الحج: 40]، كما أن مرتبته تعلو على الكثير من الطاعات، كما في قوله تعالى: ]أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ [ [التوبة: 19]، وكذلك فإنّ حكم الجهاد يتغيّر بتغير الزمان والمكان وواقع المسلمين.
وكما أن الجهاد يختلف حكمه بين الوجوب والندب بحسب الزمان والمكان، فإن صوره كذلك تتعدد وتختلف مراتبها، وتتغير بتغيّر الزمان والمكان والحال والمرحلة، فمن تأمل حديث النّبي صلى الله عليه وسلم : (أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكاً ورحمة، ثم يكون إمارة ورحمة، ثم يتكادمون[5] عليه تكادم الحمر فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان)[6]، يجد أنه – عليه الصلاة والسلام – يدعو المسلمين في مرحلة الاستضعاف والهجوم على الإسلام وأرضه ومقدساته، إلى الحرص على الجهاد، بكل وسائله، واختص من هذه الوسائل في هذه المرحلة بالرباط، وخاصة في فلسطين (عسقلان)، والرباط هو ملازمة المكان حمايةً للمسلمين وثغور الإسلام، ومنه الإقامة في الوطن لحمايته من العدو[7]، والرباط من أعلى مراتب الجهاد، وقد جاء فضله في الكتاب والسنة، فيقول الله تعالى: ]يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ[ [آل عمران: 200]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)[8].
وإذا كان فضل المسجد الأقصى – من جانب – مما لا يخفى على مسلم، من حيث قدسيته ومكانته للمسلمين، فهو جزء من عقيدتهم، وهو ثاني مسجد وضع في الأرض، ومن المساجد الثلاثة التي تشدّ إليها الرحال، فإنه من جانب آخر يرضخ تحت نير الاحتلال منذ ما يزيد عن نصف قرن من الزمان، ويعتدى على حَرَمه وحُرمته، فتقام فيه الصلوات التلمودية، والسجدات الملحمية، ويخشى عليه من التقسيم الزماني والمكاني، ويحرم المسلمون من الصلاة فيه، لكل ذلك فإن من الواجب على المسلمين حمايته وتحريره بكل الوسائل المتاحة، وإذا
كانت مرتبة الوسيلة تابعة لشرف مقصدها، فكيف إذا كانت تفضي إلى عدة مقاصد سامية عظيمة؟ فالرباط في المسجد الأقصى، حماية له، ودفاعاً عنه، يحقق مقاصد عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- الجمع بين شرف الطاعة وهي الجهاد والرباط، وشرف الزمان في زمن التكادم والتكالب والتداعي على الإسلام وأهله، وشرف المكان في المسجد الأقصى.
2- شد الرحال ومضاعفة الثواب: لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، …، والمسجد الأقصى)[9].
3- حماية الأقصى ومنع الاحتلال وقطعان مستوطنيه من الاستفراد به، ومن تقسيمه زمانياً ومكانياً.
4- تحقيق عبادة المراغمة: يقول ابن القيّم: “ولا شيء أحب إلى الله تعالى من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له، كما قال تعالى: ]وَلَا يَطَـُٔونَ مَوۡطِئٗا يَغِيظُ ٱلۡكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنۡ عَدُوٍّ نَّيۡلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٞ صَٰلِحٌۚ [[التوبة: 120]، وكما وصف الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فقال : ]يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ[ [الفتح: 29]، فمغايظة الكفار غاية محبوبة لله تعالى، وموافقته فيها من كمال العبودية، فمن تعبد لله تعالى بمراغمة عدوه، فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر”[10]، ولا جدال أن المرابطة في المسجد الأقصى في هذا الزمان فيها من المراغمة والجهاد لأعداء الإسلام ما لا ينكره إلا جاهل أو مغرض.
ولهذا وغيره فإن من الواجب على الدعاة والعلماء حث المسلمين على الرباط في الأقصى، وعلى القادرين السعي لذلك وتلبية النداء، وشد الرحال إليه، فإن الخطر داهم، والاستهداف كبير.
]وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ [
[1] الطرق المفضية لتحقيق المقاصد الشرعية.
[2] العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/54، 123- 124. ط الكليات الأزهرية، 1414 ه.
[3] أم نائل يركاني، فقه الوسائل في الشريعة الإسلامية، 115. ط أوقاف قطر، 1428 ه.
[4] يتكادمون عليه: ينشبون أنيابهم فيه، ويحدثون الأثر بِعَضّ وضرْب ونحوه.
[5] الطبراني، المعجم الكبير، 11/88. قال الألباني في الصحيحة،ح: (3270)، 7/802: إسناد جيد.
[6] ابن حجر، فتح الباري، 6/85. ط السلفية.
[7] صحيح البخاري، ح: (2735)، 3/1059. ط ابن كثير.
[8] صحيح البخاري، ح:(1132)، 1/398. صحيح مسلم، ح: (1397)، 2/1014. ط البابي الحلبي.
[9] متفق عليه.
[10] مدارج السالكين، 1/353-355. ط عطاءات العلم.
تصنيفات : قضايا و مقالات