إن لفلسطين دون بقية أرض الله ميزةً خاصةً، وفضلاً عظيماً للرباط والمقام فيها، وقد خصّها الله سبحانه وتعالى بالبركة والفضل العظيم، في أكثر من آية من كتاب الله، فقال سبحانه وتعالى:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ {الإسراء: 1}.
وخصّها الرسول صلّى الله عليه وسلَّم بكثير من الفضائل التي تدعو للرباط والمقام فيها، بل والهجرة إليها، لكن ما نراه الآن هو العكس من ذلك!، فقد كثر الحديث في هذه الأيام عن الهجرة من فلسطين؛ لا سيما بعد القتل والدمار الشديدين اللذين ألحقهما الاحتلال بالشعب الفلسطيني بعد أحداث السابع من أكتوبر، وهذا خلاف ما أشار إليه القرآن الكريم والسنّة النبوية المشرّفة.
إنّ تفريغ فلسطين من أهلها، هو ما يريده الاحتلال الصهيوني؛ لأنه يخدم مصالحهم ويسمح لهم بتنفيذ مخططاتهم الخبيثة وإسكان اليهود مكانهم، وقد باتت هذه المخططات واضحةً وضوح الشمس، وقد أعلونها مدوية في الإعلام على مسمع من الدنيا جميعها؛ وقالوا إنهم يريدون دولة يهودية خالصة لهم من النهر إلى البحر، والسبيل لذلك هو تهجير الشعب الفلسطيني.
لذلك؛ فإن الواجب على أهلها هو التجذر فيها، والتمسك بترابها، والبقاء فيها، وإن الدعوة إلى الهجرة من فلسطين تماهٍ مع الأهداف الصهيونية، وواجب على كل مسلم أن يحبط كيد الكافرين وإن يقف في وجه مخططاتهم.
إنّ فلسطين ليست دار كفرٍ حتّى تجب الهجرة منها، بل هي دار إسلام مغصوبة، بل يجب البقاء فيها، والدّفاع عنها، والرّباط فيها، لكي لا يسلبها اليهود، ويستحوذوا على مقدساتها، وإنّ المكث فيها هو رباط في سبيل الله، وهذا فضلٌ عظيم، فكل مسلم يُختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ ) رواه مسلم.
فتخيل هذا الفضل العظيم: أن يبقى العمل والأجر جاريين للساكن في فلسطين حتى بعد موته!
ومن عظيم الأجر للمرابط في سبيل الله، أن المقام في الثّغور بنية المرابطة في سبيل الله تعالى؛ هو أفضل من مجاورة المساجد الثّلاثة باتفاق العلماء، كما نقل ذلك ابن تيمية رحمه الله، لأن جنس الجهاد أفضل من جنس الحج كما قال تعالى: “أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”.
وقد ورد من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم في فضل السكن والإقامة في بيت المقدس الكثير من الأحاديث الشريفة التي تسعد قلب أهل فلسطين، وتثبتهم على الحق منها: “وَلَيوشِكَنَّ لأن يكونَ للرجلِ مثلُ شَطَنِ فرَسهِ (وفي رواية: مثل قوسه) من الأرضِ حيثُ يُرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعاً. أو قال: (خيرٌ له منَ الدُّنيا وما فيها)”.
فإذا كان مثل حبل الفرس، خيرٌ من الدنيا وما فيها؛ فكيف بمن يملك بيتاً بجانب المسجد الأقصى المبارك، ويصلّى فيها صباح مساء، فهذا والله لهو الفضل العظيم الذي لا غناء عنه.
وعن ابن حوالة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم: ” سَيَصِيرُ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ تَكُونُوا جُنُودًا مُجَنَّدَةً جُنْدٌ بِالشّام، وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ، وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ»، قَالَ ابْنُ حَوَالَةَ: خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِالشّام، فَأنّها خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ، يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ، وَاسْقُوا مِنْ غُدُرِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَوَكَّلَ لِي بِالشّام وَأَهْلِهِ” .
وهنا يطلب الصحابي ابن حوالة من الرسول صلّى الله عليه وسلَّم أن يختار له أرضاً ليسكنها، فيختار له الشّام، مُبيناً أنّها خيرة الله من أرضه، ويختار لها خيرته من عباده، وهذا من فضل الله العظيم على أهل هذه الأرض، والمحروم هو الذي يترك هذا الفضل ويتحول بغير سبب إلى أرض غيرها.
وفي مسند أحمد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم: ” لا تزال طائفة من أمتي على الدّين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتّى يأتيهم أمر الله وهم كذلك “. قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ” ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ” .
وهذا نص صريح ببقاء هذه الطائفة وعدم هجرتها من بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، لتبقى على الحقّ ظاهرة، ولليهود قاهرة، وعلى البلاء صابرة، حتّى يأتي نصر الله ووعده.
وعن عبد الله بن عمرو، قال: سمعتُ رسول الله -صلّى الله عليه وسلَّم- يقول: “ستكون هجرةٌ بعد هجرةٍ، فخِيار أهلِ الأرضِ ألْزمُهمِ مُهاجَرَ إبراهيمَ، ويبقى في الأرضِ شرارُ أهلها، تَلفِظُهم أرَضُوهُم، تقْذَرُهم نَفْسُ اللهِ، وتحشُرهم النارُ مع القردةِ والخنازيرِ”.
فأفضل أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ومكان هجرة إبراهيم عليه السّلام هو فلسطين، فهي أرض الجهاد والاستشهاد على مدى الزمان، حتّى نزول عيسى عليه السّلام وقتله للدجال في باب مدينة اللد في فلسطين.
وقد ثبت بهذه النصوص وغيرها حرمة الهجرة من فلسطين، إلا لضرورة شديدة جدا، وما كان للضرورة فيقدر بقدرها، ومتى زالت هذه الضرورة رجع إلى بلاده، وبهذا أفتى كثير من العلماء من فلسطين ومن خارجها، ومنهم مجلس الإفتاء الأعلى في المملكة الأردنية، إذ اجتمع مجلس الإفتاء برئاسة قاضي القضاة رئيس مجلس الإفتاء الدكتور نوح علي سلمان القضاة، بتاريخ 4 محرم 1414هـ الموافق 24 حزيران 1993م، وأقروا الآتي:
” المجلس يؤكد على أنه لا يجوز لأهل فلسطين أن يهاجروا ولا يجوز لهم إخلاء الأرض المقدّسة لليهود، كما يؤكد المجلس على أن بقاءهم في أرضهم جهاد في سبيل الله ولهم عليه أجر المرابطين، وإن مناهضتهم للعدو جهاد في سبيل الله لهم به أجر المجاهدين، وإن الذين يقتلون في تلك المصادمات هم شهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وإن كل دعم لصمود أهل فلسطين هو تأييد للمجاهدين وبذلك في سبيل الله”.
وقالوا أيضا: “فلسطين أرض وقف ٍإسلامية يحاول اليهود انتزاعها والغلبة عليها وتغيير هُويتها، ولذا يجب على المسلمين كافة الوقوف في وجههم بكل ما أوتوا من قوة، وتقع المسؤولية أوّلاً على أهل فلسطين ثم على الأدنى فالأدنى في البلاد الإسلامية المجاورة”.
نسأله سبحانه أن يخلص نوايانا في الرباط في سبيل الله، وأن يثبّت أقدامنا عليها، وأن ينصرنا على القوم الكافرين.
تصنيفات : قضايا و مقالات