
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن اتباع المنهج النبوي وأساليبه فيه اقتداء بالنبي ﷺ، الذي هو أسوة حسنة لنا، لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. ويترتب على ذلك حصول الأجر العظيم من الله تعالى إذا خلصت النية.
ومن خلال استعراض مواقف الثبات على القيم، وما يجده المسلم بذلك من أجر وثواب، ثم نصر وتمكين، يجدر بنا أن نتدارسها ونتخذها نهجًا في الحياة.
إن بعض المنهزمين الذين يتخلون عن قيمهم سرعان ما يندمون على ذلك عاجلًا أو آجلًا، إذ إن المسلم بقيمه التي تشربها مع عقيدته الخالصة لله تعالى، كان له برسول الله ﷺ أسوة حسنة. وليس الإنسان غير المسلم ببدعٍ من الزمن، بل تجد بعضهم يدافع عن قيمه ومبادئه، بل ويموت في سبيلها. أفلا يكون المسلم أولى بذلك الثبات، وأحق بحمل لواء حماية قيمه؟
إن التوجيهات الربانية في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة تُعَدُّ العنصر الأساسي في تدعيم ركائز بناء المجتمع. ثم إن دور الأخلاق في تثبيت القيم الإنسانية لا يقل أهميةً في الحفاظ على أمن المجتمع وسلامة أهله، إذ إن الإنسان يتميز بالقيم، ويترك بصمة واضحة في إصلاح المجتمع.
“ولعل الإسلام هو أوفى الأديان والشرائع عنايةً بتوازن القوى المختلفة في المجتمع، وبناء الأمم بناءً متراصًا لا وهن فيه ولا ثغرة ولا اختلال… حتى لترى المسلم الحق قويًّا في كل ناحية من نواحي حياته.” (السباعي، د. مصطفى، أخلاقنا الاجتماعية، القاهرة، دار السلام، ط2، سنة 2005م)
والقيم: هي مجموعة المبادئ والتعاليم والضوابط الأخلاقية التي تحدد سلوك الفرد، وترسم له الطريق السليم الذي يقوده إلى أداء واجباته الحياتية ودوره في المجتمع الذي ينتمي إليه. وهي إلى جانب ذلك السياج المنيع الذي يحميه من الوقوع في الذنب، ويحول بينه وبين ارتكاب أي عمل يخالف ضميره أو يتنافى مع مبادئه وأخلاقه. وهي أداة اجتماعية للحفاظ على النظام والاستقرار المجتمعي.
والقيم هي التي تؤثر في بنائنا العميق، فهي مرجعية حكمنا على ما هو منكر أو فاضل، صحيح أو خطأ، وهي غالبًا ما تكون لا واعية. وتختلف القيم من مجتمع إلى آخر، كما تختلف من شخص إلى آخر، لكنها بالإجماع شيء أساسي لكل إنسان ولكل مجتمع يسعى لبناء نفسه وتطوير بنيته الاجتماعية والاقتصادية، وتنشئة أجيال مخلصة لوطنها.
إن القيم تُعَدُّ قضية العصر، خاصة في ظل ما نلحظه من تشوهات السلوك الإنساني المعاصر، وغلبة القيم الفردية والمادية، واضمحلال القيم الروحية والجمالية. “فغيرنا يربط قيمه وسلوكه والأخلاق عامة بما يثمر متعة أو منفعة، فما جلب متعة فهو خير، وما جلب نقصًا في المنافع أو المتع فهو شر وباطل… بينما للإسلام خصائص في المنهج الأخلاقي؛ يتميز بميزتين كبيرتين: إحداهما اعتبار القيم الأخلاقية ذات قيمة ذاتية لا تزول عنها، وإن لم يظهر لها نفع أحيانًا، أو كان التزامها مؤلمًا في بعض الظروف… وأما الميزة الكبرى الأخرى فهي ربط مفردات القيم الأخلاقية بالإيمان بالله واليقين بلقائه وجزائه في يوم لا شك فيه.” (موسوعة الأسرة، دولة الكويت، الديوان الأميري، اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الاسلامية، ج2، ط1، 2004م)
لذلك، فإن قضية القيم شغلت اهتمام التربويين لأنها مهمة صعبة تتحدى كل مُربٍّ وأب وأم، خاصة في ظل ما يتعرض له الناشئة في عصر الانفتاح والعولمة.
ثم إن تعليم القيم الفاضلة أمرٌ حث عليه القرآن الكريم: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9]. وكذلك في السنة النبوية المطهرة، عن النبي ﷺ قال: “إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق” [أخرجه أحمد].
فتعليم القيم أصبح فريضةً ينبغي الاهتمام بها، ومسؤوليةً يتحملها الجميع دون استثناء. فهي تُعَدُّ أكبر تحدٍّ نواجهه لمدى قدرتنا على تربية أطفالنا ليكونوا أفرادًا صالحين في ذواتهم وأفكارهم ومشاعرهم.
“إن التمسك بالقيمة والثبات عليها لا يمكن تجزئته، بحيث يأخذ الفرد ما وافق هواه ومصلحته ويترك ما خالف الهوى والمصلحة. وهذا المفهوم يشير إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۖ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85].
وبعد هذه المفردات البسيطة عن القيم والثبات عليها، يتبادر إلى الذهن السؤال التالي:
كيف يكون الثبات؟
الثبات القولي: وهو يظهر حسب مواقف الحياة المختلفة، إما في إظهار المعتقد، أو الدفاع عن حق، أو بيان الحقيقة. وقد قال ﷺ: “مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ” [رواه مسلم]. وكان هذا في معرض حديثه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقيمة من القيم التي يعيش بها المسلم ويثبت عليها.
الثبات الفعلي: كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
الثبات القلبي: كما في قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
اجتماع الثبات القولي والفعلي والقلبي: كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
إن المسلم المعاصر يواجه تحديات كثيرة من قطار العولمة المنطلق بأدوات الإعلام والاقتصاد والتجارة الدولية والإنترنت والفضائيات. ولا سبيل له في مواجهة هذه التحديات إلا بالثبات على القيم الإسلامية والتمسك بها. وهذا بلا شك يحتاج إلى جهد وصبر كبيرين، لكنهما يهونان في مقابل الخير والأجر العظيم الذي يدخره الله عز وجل له، خاصة إذا علمنا أن المسلم يؤجر بترك المحرمات كما يؤجر بأداء الطاعات. (مقال، سلطان الدويفن، بعنوان/ الثبات على القيم)
تصنيفات : قضايا و مقالات