رباعية الثبات في حرب الإبادة، أ. محمد أبو العبد الريماوي
أبريل 28, 2025
للمشاركة :

مع هول المجازر وحرب الإبادة المستمرة في قطاع غزة، التبست الأفهام، وحارت العقول، وتشوشت أفكار كان يظنها أصحابها من المسلمات. ولأجل ذلك، أقف في هذا المقال على أربعة مرتكزات تشكل أعمدة لبناء فهم المسلم، فهمًا يعصمه من الزلل وتشويش الغوغاء، بل يزرع في وجدانه رسوخ اليقين المبصر للحقائق والمحفّز للعمل، ويضيف سهمًا جديدًا في جعبة أهل الإيمان.

أولًا: صراع ممتد

إن الصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، ممتد امتدادًا عميقًا في البشرية منذ مطلعها، أيام كانت أعدادها ضئيلة متناهية في الصغر، فوقعت حادثة القتل الأولى بين ابني آدم عليه السلام. بل إن العداوة لآدم عليه السلام بدأت قبل ذلك في الجنة، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ﴾. ثم كان لكل نبي من أنبياء الله وأوليائه وأصفيائه عدو من المجرمين، قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾.

وهكذا سيبقى الصراع بين الحق والباطل، والنور والظلام، وما ينتج عنه من آلام وجراحات، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ونحن في ذلك ممتحنون في اصطفافاتنا واختياراتنا، ومأمورون بأن نكون أقوياء مع الحق وأهله. كما جاء في القرآن حكاية عن أنبياء قُتلوا ومن معهم من قيادات الصف الأول من الربانيين، فما كان حالهم وحال أتباعهم إلا كما قال تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾.

ثانيًا: ربط بين الدنيا والآخرة

عندما نرى المجازر والجراحات وأفعال الإبادة أمام العالم، فتطيش العقول، وتزيغ الأبصار، ويتزلزل الحق في النفوس، يوقظنا الإيمان وهو يذكّرنا أن الدنيا قنطرة إلى الآخرة، وأنها محطة اختبار للحياة الحقيقية في نعيم أبدي لأهل الإيمان، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فنستوعب حينها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ». ونستوعب ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: «يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ».

وهكذا يصبح همّنا الفوز برضوان الله تعالى من خلال السير على المنهج الذي يرضيه، ثم نلقي عليه جل جلاله كل همنا ونتائج سيرنا على طريق الحق، فالأمر بيده، وهو الذي يقود التاريخ نحو تحقق المآلات الحتمية، ومنها تحرير الأرض المباركة من الإفساد. وبدون هذا الربط بين الدنيا والآخرة، تزل الأقدام بعد ثبوتها.

ثالثًا: جهادنا في فلسطين جهاد دفع لا جهاد طلب

وهذا مرتكز يلمح إلى صوابية المنهج ويغرس الاطمئنان إلى الطريق. فقد فرّق علماؤنا بين جهاد الطلب، الذي يهدف إلى إزالة العوائق أمام الدعوة والدفاع عن المستضعفين في البلدان الأخرى، ووضعوا له شروطًا معينة لتحقيق المصلحة ودرء المفسدة، وبين جهاد الدفع، الذي يدفع فيه المسلم أذى نزل به واستحل أرضه وأهله ومقدساته. وهذا ما حصل في فلسطين، حيث احتُلت بلادنا، وعاث الاحتلال فيها فسادًا وقتلًا وانتهاكًا وتدنيسًا للمقدسات. لذا، فإن جهاد شعبنا في كل تاريخه إلى يومنا هذا ليس جهاد طلب، بل هو جهاد دفع. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لرجل سأله: «أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: قَاتِلْهُ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: فَأَنْتَ شَهِيدٌ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: هُوَ فِي النَّارِ». وقال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾. فواقع شعبنا الفلسطيني ليس باختياره، بل اصطفاء رباني بأن يكون على هذه الأرض في ظل واقع مفروض عليه ومُختبر فيه، حتى يأذن الله تعالى بتحقيق وعده: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾. وكيف دخلوه أول مرة؟ قال تعالى: ﴿عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ﴾.

رابعًا: عدونا عدو إحلالي

ثمة عدو مختلف هنا، يسعى بكل جهده لإحلال نفسه مكان شعبنا الفلسطيني. وهذا يعني أن شعبنا لو رفع الرايات البيضاء، فإن مشروع الاحتلال بأحلامه التوراتية التوسعية سيستمر حتى بناء هيكلهم المزعوم وتهجيرنا من أرضنا. أما الخيار الثاني، فيشكل كوابح وحسابات تعيق مخططاته، ويبقي جذوة هذه القضية حية في نفوس المسلمين.

وفي الختام

فلسطين قضية رابحة بالوعد الرباني: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾. فالاستثمار في طريق ومنهج تحقيق الوعد الرباني يحمل في طياته بزوغ فجر لا محالة قادم. ﴿وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا﴾.

تصنيفات :