
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد؛ فلما دخل التتار بلاد المسلمين، وارتكبوا من المذابح ما لم يُسمع به في التاريخ، وذهب الناس يستنجدون برؤوس المسلمين هنا وهناك، وقَدِم الشيخ محيي الدين ابن الجوزي إلى دمشق رسولًا إلى الملك عيسى صاحب دمشق، فقال له: “إن التتار قد تغلَّبوا على البلاد وقتلوا المسلمين.” فقال له: “دعني، أنا في شيء أهم من ذلك! حمامتي البلقاء لي ثلاثة أيام ما رأيتها”. [النجوم الزاهرة: 6/262]
تبلُّد الأحاسيس والمشاعر موجود قديمًا وحديثًا، لا سيما عند أصحاب الجاه والمال والسلطان. ولكن في هذه الأيام، صرنا نرى تبلدًا في الأحاسيس والمشاعر تُحار منه العقول، وتعجز الألسنة عن وصفه. وماذا تقول؟
كما قال تعالى عن الأصنام التي يعبدها المشركون: ﴿أَمۡوَ ٰتٌ غَیۡرُ أَحۡیَاۤءࣲۖ وَمَا یَشۡعُرُونَ أَیَّانَ یُبۡعَثُونَ ٢١﴾ [النحل: 21]
قال ابن كثير رحمه الله: ﴿أَمۡوَاتٌ غَيۡرُ أَحۡيَاٰءٍ﴾ أي: هي جمادات لا أرواح فيها، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل.
فهناك فئات من الناس كأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل، وإخوانهم يتعرضون في كل يوم للمجازر والقتل على أيدي أعداء الإسلام، الذين قال عنهم ربنا عز وجل:﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:” ما ذاك إلا لأن كفر اليهود عناد وجحود ومباهَتَةٌ للحق، وغمط للناس وتنقُّص بحملة العلم. ولذلك قتلوا كثيرًا من الأنبياء، حتى هَمُّوا بقتل رسول الله ﷺ غير مرة، وسحروه، وألَّبوا عليه أشباههم من المشركين – عليهم لعائن الله المتتابعة – إلى يوم القيامة.”
فبينما إخواننا في غزة يُقتلون ويُسحقون ويُبادون، نتفاجأ بأقوام في نفس البلد – فلسطين – يغنون ويرقصون! ويزداد الأمر سوءًا عند رؤية الحدث أمام العيون: شباب وبنات يرقصون، وفتاة ترقص ويصفقون لها ويتضاحكون، ويتمايلون في جمع بين النساء والذكور، فبئس ما يفعلون!
وفي بعض المنتزهات، تعلو صرخات البنات والضحكات والتلذُّذ بسماع الأغنيات. فهذا الصنف والذي قبله كأنهم ﴿أَمۡوَ ٰتٌ غَیۡرُ أَحۡیَاۤءࣲۖ وَمَا یَشۡعُرُونَ﴾، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
هل هكذا يكون حال المسلمين عندما تنزل المصائب بإخوانهم وبجيرانهم، ممن طُرِدوا من بيوتهم وقُتِل أبناؤهم؟ هل هذا يرضي الله عز وجل؟ حتى ولو لم يكن هناك مصائب وشدائد، ألهذه الدرجة هم من مكر الله آمنون؟ ﴿أَفَأَمِنُوا۟ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا یَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ﴾ [الأعراف: ٩٩].
إن هذه البلادة التي سيطرت على هذا الصنف من الناس سببها موت القلب، وقلة الدين، وتدني مستوى الإيمان واليقين، وحب الدنيا ونسيان الموت والآخرة. فهم للدنيا يعيشون ويعملون، ولها يجمعون ويكدحون. فيا ويحهم! ما أقسى قلوبهم!!
قال تعالى: ﴿فَوَيۡلٞ لِّلۡقَٰسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكۡرِ ٱللَّهِ﴾ [الزمر: ٢٢].
وقال: ﴿ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗ﴾ [البقرة: ٧٤].
قال ابن القيم رحمه الله:
“قد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه؛ لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها. بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا يُؤلِمه جراحات القبائح، ولا يُوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة.” [إغاثة اللهفان].
وصدق من قال:
مَن يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ ** مَا لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ
المعنى: مَن يرضى بالمهانة، فهو فاقد الإحساس، كالشاة بعد الذبح لا يؤلمها الجرح.
فأقول لهؤلاء: اتقوا الله عز وجل، واعلموا أنكم من بعد الموت مبعوثون، وعلى كل صغيرة وكبيرة محاسبون. وبعد الحساب، يومئذٍ ينقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير؛ فريق السعداء وفريق الأشقياء.
قال سبحانه:
﴿إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّمَنۡ خَافَ عَذَابَ ٱلۡـَٔاخِرَةِۚ ذَ ٰلِكَ یَوۡمࣱ مَّجۡمُوعࣱ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَ ٰلِكَ یَوۡمࣱ مَّشۡهُودࣱ ١٠٣ وَمَا نُؤَخِّرُهُۥۤ إِلَّا لِأَجَلࣲ مَّعۡدُودࣲ ١٠٤ یَوۡمَ یَأۡتِ لَا تَكَلَّمُ نَفۡسٌ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ فَمِنۡهُمۡ شَقِیࣱّ وَسَعِیدࣱ ١٠٥ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ شَقُوا۟ فَفِی ٱلنَّارِ لَهُمۡ فِیهَا زَفِیرࣱ وَشَهِیقࣱ ١٠٦ خَـٰلِدِینَ فِیهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَاۤءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالࣱ لِّمَا یُرِیدُ ١٠٧ وَأَمَّا ٱلَّذِینَ سُعِدُوا۟ فَفِی ٱلۡجَنَّةِ خَـٰلِدِینَ فِیهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَاۤءَ رَبُّكَۖ عَطَاۤءً غَیۡرَ مَجۡذُوذࣲ ١٠٨﴾ [هود: ١٠٣-١٠٨]
تَذَكَّرْ وَقُوفَكَ يَوْمَ العَرْضِ عُرْيَانَا ** مُسْتَوْحِشًا قَلِقَ الأَحْشَاءِ حَيْرَانَا
وَالنَّارُ تَلْهَبُ مِنْ غَيْظٍ وَمِنْ حَنَقٍ ** عَلَى العُصَاةِ وَرَبُّ العَرْشِ غَضْبَانَا
اِقْرَأْ كِتَابَكَ يَا عَبْدِي عَلَى مَهَلٍ ** فَهَلْ تَرَى فِيهِ حَرْفًا غَيْرَ مَا كَانَا
فَلَمَّا قَرَأْتَ وَلَمْ تُنْكِرْ قِرَاءَتَهُ ** وَأَقْرَرْتَ إِقْرَارَ مَنْ عَرَفَ الأَشْيَاءَ عِرْفَانَا
نَادَى الجَلِيلُ خُذُوهُ يَا مَلَائِكَتِي ** وَامْضُوا بِعَبْدٍ عَصَى لِلنَّارِ عَطْشَانَا
المُشْرِكُونَ غَدًا فِي النَّارِ يَلْتَهِبُوا ** وَالمُؤْمِنُونَ بِدَارِ الخُلْدِ سُكَّانَا
قدوتنا هو رسول الله ﷺ، الذي قال:
“مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.”
وقال ﷺ:
“المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا.”
وقد كان اهتمامه ﷺ بالمسلمين متجليًا في كل حياته. فحين أتاه قوم من مُضَر عليهم علامات الفقر – حفاة الأقدام، ممزقو الثياب، ليس لديهم من حطام الدنيا شيء – تغير وجهه، وجعل يدخل ويخرج مهمومًا حزينًا. ثم صعد المنبر فحرض المؤمنين على الصدقة لكفاية هؤلاء الفقراء، فقال: “تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ.” فجاء رجل بِصُرَّةٍ تعجز عنها يده، وتتابع الناس. عندئذ تهلل وجهه وعاد إليه إشراقه وتبسُّمه. كما مكث شهرًا يدعو للمستضعفين من المسلمين الذين يعانون إيذاء المشركين واضطهادهم، وكان يقول في دعائه:“اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُسْلِمِينَ.”
فهكذا يجب أن يكون المسلم: يشعر بارتباطه بإخوانه المسلمين في كل مكان، فيتألم لآلامهم، ويفرح لأفراحهم، ويبذل ما يستطيع لتفريج كرباتهم. وأقل أحواله أنه لا يغفل عن الدعاء لإخوانه بظهر الغيب.
فهل أنت كذلك يا مسلم يا فلسطيني؟
هل تهتم بأمور إخوانك المستضعفين في غزة؟
هل تتذكرهم بدعواتك؟
ولا يعني هذا الكلام أن يكون الواحد منا قد حبس نفسه عن الناس، أو منع نفسه من المباحات والطيبات، لا!
بل المطلوب منك ألا تظهر بمظهر الإنسان الذي لا يعيش هموم إخوانه، ولا يأبه بما يجري حوله، كأنه من عالم آخر، متبلد الأحاسيس والمشاعر، يغني ويرقص وإخوانه تتطاير رؤوسهم وتتقطع أجسادهم في كل وقت وحين.
وإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تصنيفات : قضايا و مقالات