
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه الطيبين الشرفاء، أما بعد:
فلا شك أن أهل العلم عليهم واجب عظيم بما استحفظهم الله من علم، وأخذ عليهم من عهد، قال تعالى: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُ﴾. فهم الملجأ عند اشتداد الخطوب، والموئل العلمي حينما تلتبس الأفهام وتطيش الأحلام. والاقتباس من نورهم واجب، والاقتداء بهديهم لازم. فإن هم تخلفوا عن دورهم أو أفرغوا حيّزهم، أمَّ الناسَ من لا خلاق له، وتصدر كل متشبع بما لم يُعطَ.
ولأهل العلم وطلبته في هذه البلاد المباركة تكليف بعد التشريف، وتكليفهم له خصوصية لا تخفى، كما تواجههم تحديات لا تُجهل. ومن أهم هذه التحديات:
أولاً: جمع الكلمة والبعد التام عن كل ما يعكر انسجام المجتمع بأطيافه المختلفة، لا سيما مع حساسية المرحلة واختلاف الرؤى حول كثير من القضايا. قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾. ومن واجب أهل العلم تثبيت الناس وربطهم بقضيتهم. وكان النبي ﷺ ملجأ الصحابة في الشدائد، فعن عليٍّ رضي الله عنه قال: (كنا إذا احمرَّ البأس، ولقي القومُ القومَ، اتقينا برسول الله ﷺ، فما يكون منا أحد أدنى إلى القوم منه) رواه أحمد بسند صحيح.
ثانياً: التوازن في متابعة الأحداث وتحليلها. فاشتغال المسلم بما يجدُّ من أحداث ووقائع لا بأس به إن كان فيه مصلحة واضحة، لكن لا ينبغي أن ينجر العالم إلى متابعة القليل والكثير منها مع التحليل، فتُصيِّره الأحداث وتلاحُقها محللاً سياسياً. بل الواجب الالتفات إلى كل ما ينفع المسلم في دنياه وينقله من دائرة التأثر إلى دائرة التأثير. والتوسط في هذا الأمر مطلوب أشد الطلب في هذه المرحلة.
ثالثاً: تبشير الناس من غير مبالغة ولا تحديد موعد لانتهاء الأزمات. فإن التبشير من هدي البشير النذير ﷺ، وهو من سمة مبلغي الدين الحنيف. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي ﷺ بعثه ومعاذاً إلى اليمن، فقال: (يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا) أخرجه مسلم. ولكن تحديد وقت معين لانتهاء حدث أو بلاء، أو بداية حدث، فعلمه عند الله تعالى وحده، ومن اجتهد في شيء منه فلا ينبغي أن يكون اجتهاده إلا من قبيل إنعام النظر في الآيات المسطورة والآيات المنظورة.
رابعاً: التوازن في تناول الرؤى والمنامات وأثرها على الواقع. فبعض الناس قد شطَّ، فعوَّل على بعض المنامات في تحديد انتهاء كثير من الأزمات، وصارت قراءته الاجتهادية في حكم الواقع لا الأحلام. وصحيح أن النبي ﷺ قال: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة) أخرجه البخاري. إلا أن تأويل المنامات على وجه محدد لا يمكن الجزم به ولا بناء تحليل دقيق عليه، فإن من شأن ذلك أن يرجع بنتائج عكسية على المؤوِّل والمؤوَّل له والمجتمع.
خامساً: التوازن في تنزيل النصوص الواردة في أحداث وفتن وملاحم آخر الزمان. فقد لوحظ أن كثيراً من طلبة العلم يسارعون في تنزيل نصوص ثابتة أو غير ثابتة على أحداث بعينها أو أشخاص بأعينهم، ثم لا يتحقق ذلك التنزيل ولا يصدق التأويل. ولا شك أن ضغط الواقع وتسارع الأحداث يدفع بعض طلبة العلم إلى نظر النصوص نظر المستنطق لها، المستعجل لتأويلها، أو المستشرف لتنزيلها. وقديماً قال بعض علماء الإسلام لما دهم المغول بغداد واجتاحوا العالم الإسلامي: إن المغول هم يأجوج ومأجوج. ولا شك أن هذا القول خاطئ؛ فإن ظهور يأجوج ومأجوج لا يكون إلا بعد نزول عيسى عليه السلام، كما ثبت في الصحيح.
وأختم بما رواه ابن وهب عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: “ما علمته فقل به، ودل عليه، وما لم تعلم فاسكت، وإياك أن تقلد الناس قلادة سوء” (إعلام الموقعين، ٣/٤٤٥(.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
تصنيفات : قضايا و مقالات