
قوام الحياة –بحسب القرآن الكريم- أمران: الدّين، والمالُ، هكذا وصف الله تعالى كلًّا منهما في كتابه، فقال تعالى: ﵟجَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌﵞ [المائدة: 97]، وقال تعالى: ﵟوَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاًﵞ [النّساء: 5]، وقوام الأمر عصبه الّذي لا يقوم إلا به، وهكذا هو الدّين والمال بالنسبة للحياة والنّاس، ولذلك جعل علماء الشّريعة المحافظة على الدّين وعلى المال من مقاصد التّشريع الإسلاميّ الخمس الضّروريّة. وهدف علم الاقتصاد الإسلاميّ المحافظة على المال في إطار القِيَم الإسلاميّة.
والمحافظة على المال تكون من جانبين: جانب العدم، وجانب الوجود.
أمّا المحافظة عليه من جانب العدم، فتعني منع كل ما يُعدمه أو يُذهبه، ومن هنا حرّم الإسلام الإسراف والتبذير والتّرف وإتلاف المال وأكله بين النّاس بالباطل.
وأمّا المحافظة عليه من جانب الوجود، فتعني تنميته وتثميره وتكثيره، بالعمل والاستثمار بالطّرق الحلال.
والمال بين النّاس مصدر قوّة كبير، وينبغي على كل مسلم أن يحرص على إيجاد هذه القوّة والمحافظة عليها وتعزيزها، وذلك يدخل –ولا شكّ- في وجوه القوّة الّتي أمر بها الله تعالى في قوله ﵟوَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍﵞ [الأنفال: 60]، والنّبي الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال: “المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضّعيف”، رواه مسلم.
ومن الملاحظ في المجتمعات والنّاس وما أودعه الله فيهم من سنن، أنّ استقلال المرء الفرد، والأمّة –أيّ أمّة- بأكملها، يعتمد إلى حدٍّ كبير على امتلاك قوّة المال والاستقلال بها، وما استُرقّ أحدٌ ولا ابتُزّت أمّة، إلا من هذا السبيل.
وقد حرص الإسلام على تعزيز هذا الجانب المهمّ من القوّة ومن قوام الحياة عند المسلم والأمّة، فأمره بالسّعي إلى العمل وابتغاء الرّزق في مناكب الأرض، وعدّ ذلك منه عبادة يؤجر عليها، وإنّ من الذّنوب ما لا يكفّره إلا الهمّ في طلب الرّزق، كما يقول النّبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم، وأمره بطيب الكسب، وحسن التّصرّف فيما يملك، والرّشد فيما ينفق.
كما أمر الإسلام بالاعتماد على الذّات لا على الآخرين. وبقدر ما يعتمد المرء على نفسه والأمّة على أبنائها، تستقلّ بنفسها وتملك أمرها في مواجهة أعدائها. والشّعوب الّتي تعتمد على غيرها في أكلها ومعيشتها وصناعتها واقتصادها تفقد -حتمًا- سيادتها واستقلالها وقرارها السّياسيّ الحقيقيّ.
ويزداد الإلحاح في طلب الاستقلال الاقتصاديّ والماليّ بالنسبة للشّعوب الواقعة تحت احتلال حقيقيّ، فإنّ من أهمّ أدوات الاحتلال في إدامة نفسه السيطرة الاقتصادية على من يقع تحت الاحتلال والتّبعيّة الماليّة، وتحويل أهداف هذه الشّعوب من أهداف في التّحرّر إلى هدف صغير في مجرّد العيش.
وذلك يقتضي من هذه الشّعوب أن تبذل أقصى ما تستطيع للتّحرّر الاقتصاديّ سبيلًا للتّحرّر من الاحتلال المادّيّ. وإنّ من أهمّ سبل هذا التّحرّر اتّباع تعاليم الإسلام في تحصيل المال والمحافظة عليه من جانب الوجود بتثميره وتكثيره، ومن جانب العدم بمنع إهداره وتبديده، وأن تعتمد على مواردها البسيطة في الزّراعة والصّناعة، لتستغني بذلك عن الارتهان للعمل عند عدوّها، وأن تتعزّز عندها إرادة المقاطعة لكلّ ما يتصلّ بالاحتلال أو يدعمه، وأن تقتصد في معيشتها، وترتبط بأرضها بالثّبات والرّباط، ولا تكون الدّنيا أكبر همّها، وأن لا تنساق وراء ثقافة الاستهلاك والشّراء بالدُّيون والأقساط، تحقيقًا لرفاهية كاذبة خادعة، ترهنها للمطالب المادّيّة، وتثقلها بالدّيون والمطالب الماليّة، وهو ما يزيد من تبعيّتها، ويبعدها عن المطالب السّامية في الحرّية والكرامة والدّفاع عن المقدّسات والاستقلال، وتطيل الأمد اللّازم لتحرّرها.
تصنيفات : قضايا و مقالات