وقفة مع حديث: {لا تزالُ طائفةٌ مِنْ أُمِّتي ظاهرينَ على الحقِّ}، د. رياض ناصر
مايو 30, 2025
للمشاركة :

للوهلة الأولى قد يبدو الكلام عن هذا الحديث من الأمور السلسة الميسورة، ولكنك كلما وقفت مع هذا المتن النبوي الشريف، تدرك العجز أمام المعاني المركوزة، والكنوز المذخورة.

ولكن لا بد من الإشارة أولاً الى روايات هذا الحديث، وما يمكن أن يدور حولها من خلاف، فأصل المتن في الصحيحين، بينما يعتمل الجدل حول زيادات كثيرة، جدل حول ثبوتها، وجدل حول معانيها.

– فمثلاً الزيادة التي تحدد مكان هذه الطائفة وتحصره في بيت المقدس، ضعّفها الألباني في الوقت الذي يؤكد الهيثمي أن رجالها ثقات.

– وزيادة أخرى انفرد بها مسلم تقول: { لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي يُقاتِلُونَ…..}، وفي زيادة أخرى لمسلم:

 {لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي قائِمَةً بأَمْرِ اللهِ….}

وفي صحيح الجامع {إذا فسَدَ أهلُ الشَّامِ فلا خيرَ فيكم ؛ لا تزالُ طائفةٌ من أُمَّتي منصورينَ…..}

– فهل يمكن حصر هذه الطائفة بمكان ما، أو وظيفة ما، وهل يتنزل الحديث واقعًا على أرض غزة بما يدور

 فيها؟

مساحةٌ للجدل لا تحسم، إذ يرفض البعض تخصيص المكان، ويذهب البعض الى القول بأنهم أهل العلم، بل منهم من قال: أهل الحديث خاصة.

وهناك من يرى أنهم طائفةٌ متفرقةٌ في كل الميادين وشتى المجالات.

– ضغط اللحظة وظلال الأحداث، تجعل القلوب تهوي والعقول تنجذب إلى الخطاب الذي يلازم بين الحديث وبين ما يجري في غزة، وهذا أمر بدهي، فكل مخلص ملذوع من واقع الأمة، يتأمل أن يكون الحديث بشارة خيرٍ وعاقبة فخرٍ، لما تتفطر منه القوب وجعا لغزة.

– ولكن لابد من تحليل بعض العبارات أولاً، ثم نأتي للظلال العامة ثانيًا:

1) طائفةٌ من أمتي: هم جماعة من الأمة وليسوا كل الأمة، ويوحي الأمر بحيادية الجسم الأعظم من الأمة، وفي نفس الوقت هذه الطائفة لا تطرح نفسها بديلاً عن الأمة، لأنهم (من الأمة)، فلا ينزع تميزهم الانتماء عن غيرهم.

2) على الحق: وكأن الحق جوادٌ يمتطى، أو مركبٌ يمخر عباب البحر، وكأن الحق يعطيك استعلاءً وشموخًا رغم قسوة الحال وشدة الظروف.

3) ظاهرين: والظهور معنوي ومادي، بالفكرة، في تلائم الحال والسلاح والقتال، في الصبر والصمود، في قوة حقك أمام حق قوتهم وزيفهم.

4) لا يضرهم: القرآن والسنة يفرقان بين الضر والأذى، فكل ما يلمُ بنا من خطوب لا يتعدى الأذى، حتى إزهاق الأرواح، فلو تأملت القدر، فالموت من الأذى الظاهر، ولكنه في الحقيقة أفضل هيئة تنهي بها الحياة إذا انتهى أجلك.

– وبعد: فلن أغرق في نقاشات طويلة حول حصر هذه الطائفة ببيت المقدس أم لا، ثم حصرها في وظيفةٍ محددةٍ أم لا.

– ولكنني أقول إن هذا الحديث أصدق حالةٍ تتمثله اليوم هي حالة غزة، وهب أن عصرًا من عصور المسلمين كانت الطائفة في أي بقاع  المسلمين، أو في أي فئاتهم وجماعاتهم، فهي اليوم في غزة حتمًا.

-لأن غزة طائفةٌ من الأمة، بل محط أنظار الأمة ومحركها ـ ولأن غزة لم تدع يومًا أنها تختزل الأمة أو تستأثر بالحقيقة، بل هي غزة المتواضعة دومًا.

فهي لم تطلب البيعة من أحدٍ، وترمي من استنكف عن ذلك بالكفر كما فعل غيرها، وهي لم تدعِ صوابية المعتقدِ وترمي المخالف بالضلال والانحراف كما فعل آخرون.

– ولأن غزة ميدان لظهور الإسلام ووضوح فكرته في كل العالم، فهي نموذج صمودٍ أسطوريٍ، وبطولاتٍ حقيقيةٍ، يدرك العالم أنها لا تكون إلا من قومٍ تشبعوا بإيمانٍ أسطوريٍ نادرٍ.

– ولأن الحديث يقول:{ يقاتلون}، ويقول: { قائمةٌ بأمر الله } فمهما جادل المجادلون فلا أحد يقوم بأمر الله الآن، ولا أحد يرفع اللواء الآن كما تفعل غزة.

– حتى أن مشاهد دمارها وجوع أطفالها، أصبح وخزة ضمير توقظ إحساس هذا العالم المتبلد، حتى أن العديد من التقارير تتحدث عن زيادات هائلة في نسبة الراغبين في التعرف على الإسلام وحقيقة المسلمين.

– من أعظم بشريات الحديث لهذه الأمة، أن الحق لا يموت، وأن هذا الدين لا يستأصل، فلا تخافوا على دينكم، ولكن عليكم أن تخافوا أن يحمل هذا الدين ويدفع ضريبته أناس لا تكونوا معهم، ناهيك عن خذلانهم.

– فغزةُ ماضيةٌ تسير في طريقها، وتصنع لكم مجدًا ومستقبلاً، ولا يضرها من خالفها ولو كان العالم بأسره، ولا من خذلها ولو كانوا أهل الصلوات والخلوات.

{وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ}

بقلم: الدكتور رياض ناصر

تصنيفات :