
يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24). وفي سورة العصر يقول: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ (العصر: 1-3).
إن الثبات على الحق في زمن الفتن والمحن من أعظم مظاهر التوفيق الرباني، والتزود بالتقوى في أيام الشدائد باب كل فرج وتيسير. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ (الطلاق: 2). ومن وسائل الثبات على الحق: جهاد النفس، والصبر على الحق ولزومه بطاعة الله وترك معصيته، ومصاحبة الأخيار والحذر من الأشرار. والثبات على الحق من أبرز سمات الحق نفسه، فهو مطلب كل مؤمن بالله رب العالمين، وهدف كل داعية، لا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الابتلاءات والفتن بكل أنواعها، وتنوعت فيه وسائل الإضلال والإفساد، حتى أصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر.
إن الثبات على الحق ولزوم الجادة واتباع الصراط المستقيم والحذر من اتباع البدع آية رشد المرء وبرهان تضحيته ودليل على سداد رأيه. وإن أرفع مراتب الثبات وأعلى درجاته ثبات القلب على الحق واستقامته على الدين وسلامته من التقلبات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان صلبًا في دينه اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة» (رواه الترمذي).
ومهما مكر الأعداء بأهل الحق، فإن الله تعالى يمكر بهم ويرد كيدهم ويفشل سعيهم ويحيط بهم، حيث يقول الله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾ (الأنفال: 18)، ويقول أيضًا: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139). والعلو لا يناله إلا المؤمنون الصادقون، سواء قُدر لهم بالغلبة والتمكين أو أُدّخر لهم في الآخرة.
إن الدعوة إلى الله حتى تحيا وتثبت وتنتشر وتزدهر تحتاج إلى رجال ذوي تكوين خاص، رجال مخلصين عاملين يجاهدون ويضحون ويثبتون أمام المحن والابتلاءات والإغراءات والتحديات، ويصبرون على المشاق ويغالبون العقبات، فلا كلل ولا ملل ولا انقطاع ولا فتور. نعم، إن ثبات الرجال المسلمين الأقوياء أساس نجاح الدعوات ونجاح الأعمال، وهم يستلهمون هدي القرآن الكريم وسيرة سيد الأنام محمد عليه الصلاة والسلام. يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200)، ويقول أيضًا: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۖ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة: 177)، ويقول أيضًا: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ۖ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214).
لقد جاء في حديث أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (رواه الإمام أحمد).
ورد الحث على الثبات والاستقامة في كثير من آيات القرآن الكريم، ونحو الصبر والثبات لأن الطريق إلى هذا الدين محفوف بالهدى من الآفات والمهلكات والشهوات. ولم يتحلَّ بهذا إلا من تحلى بالصبر والثبات لتكون العاقبة حميدة. تلك سنة الله في الدورة، حيث يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ (محمد: 31). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا» (رواه أحمد). أشار الرسول الكريم في هذا الحديث إلى أن الذين يستحقون النصر هم الصابرون على تحمل الأذى الكبير. ويقول أيضًا: «إنما ينصر هذا الدين بالصبر وبما يقسم لكم من الغنائم» (رواه البخاري وابن ماجه).
وفي ضوء هذا كله، فإن النصر يكون حليف الصابرين على الحق، ودعوتهم مبنية على سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وكتاب الله، وهو سبيلهم إلى العزة في الدارين. والذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإن الله معهم، ولن يضيع أجر من أحسن عملًا. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت: 30). هذا منهج المصلحين إذا كان الحق درعهم، وعزموا على الثبات، وتحملوا المشاق، وحافظوا على العهد، ومنعوا أنفسهم عن التصرف بالهوى.
إن من سنن الله المحكمة أن تكون الغلبة للحق، فصبرًا جميلًا! والله يقول: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: 47). فقد يدعى الإيمان كل أحد، فاقتضت حكمة الله أن يبتلي المؤمنين ليمحص الصادقين من الكاذبين.
إن الفرق بين المجاهد الصابر الثابت على الحق وبين الفئة الضالة كفرق الأرض والسماء. يقول الشاعر:
ربما اضطر الفتى قتل نفسه … وإذا الجبان تنحى عن الوجاه
ومن هنا كان الثبات على المبدأ والصبر على الأذى من أهم سمات المؤمنين الصادقين والدعاة المخلصين، الذين يعلمون أن النصر المبني على الصبر والثبات هو النصر الحقيقي. يقول الله عز وجل: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾ (الأحزاب: 23). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيًا من ذنوبه» (رواه الترمذي).
فالله سبحانه يختبر عباده بالمصائب والمحن ليميز الصادقين من المنافقين. وإن المسلم الحق يستشعر عظمة الثواب على الصبر، ويوقن أن ما يصيبه من هم أو أذى هو كفارة لذنوبه. قال صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» (متفق عليه).
فثباتنا على مبادئنا، واستقامتنا على ديننا الحق، وتمسكنا بمنهج النبي صلى الله عليه وسلم، يعطينا القوة أمام التحديات. فلا ضعف ولا تراجع، بل ثبات وإصرار. فدعوتنا كالشجرة الطيبة: أصلها ثابت وفرعها في السماء، جذورها لا تزداد على المكائد إلا ثباتًا ورسوخًا، وساقها لا تزداد على الابتلاءات إلا قوة وسموقًا، وأغصانها لا تزداد على كثرة الرمي إلا ثباتًا وإثمارًا، فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
نعيش اليوم ألمًا مريرًا يبرز أهمية الثبات والاستقامة كسبيل للشفاء والتمسك بالحق، كما أوصانا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم. وقد قال: «يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر» (رواه الترمذي عن أنس بن مالك). وفي هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن، يصبح الثبات على الحق كالقابض على الجمر، فهو دليل على صدق الإيمان وسلامة القلب.
نماذج من ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام
هذا الرسول صلى الله عليه وسلم مجاهدًا في سبيل الله، ثابتًا أمام المحن والابتلاءات والإغراءات والتهديدات. فقد عرض عليه المشركون الشأن والمال والجاه مقابل التنازل عن دعوته، فقال كلمته المشهورة: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه» (رواه ابن هشام).
وهؤلاء الصحابة الكرام، مثل بلال بن رباح وآل ياسر وغيرهم، ضربوا أروع الأمثلة في الثبات والصبر على الأذى في سبيل الله. تحملوا العذاب والتنكيل ولم يتراجعوا عن دينهم. وكذلك كثير من الدعاة والمصلحين عبر التاريخ، الذين دافعوا عن الدين عقيدة ومنهجًا، وثبتوا في السجون والمحن صابرين محتسبين، بل ناضلوا في سبيل كلمة التوحيد: «لا إله إلا الله».
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: «إن الذي يحمل العبء الكبير يعيش كبيرًا ويموت كبيرًا، والذي يحمل العبء الصغير يعيش صغيرًا ويموت صغيرًا».
تصنيفات : قضايا و مقالات